آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحب هو شدة الشوق.

أن الحب إذا ثبت في قلب عبد لم يكن فيه فضل لذكر إنس ولا جان ، ولا جنة ولا نار ، ولا شيء إلا ذكر الحبيب وذكر أياديه وكرمه ، وذكر ما دفع عن المحبين له من شر المقادير ، كما دفع عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - وقد أججت النار وتوعده المعاند بلهب الحريق ، فأراه - جل وعز - آثار القدرة في مقامه ، ونصرته لمن قصده ، ولا يريد به بدلا ، وذكر ما وعد أولياءه من زيارتهم إياه وكشف الحجب لهم ، وأنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر في يوم فزعهم إلى معونته على شدائد الأخطار ، والوقوف بين الجنة والنار . 

قال الحارث : وقيل : إن الحب لله هو شدة الشوق ، وذلك أن الشوق في نفسه تذكار القلوب بمشاهدة المعشوق ، وقد اختلف العلماء في صفة الشوق ، فقالت فرقة منهم : الشوق انتظار القلب دولة الاجتماع ، وسألت رجلا لقيته في مجلس الوليد بن شجاع يوما عن الشوق : متى يصح لمن ادعاه ؟ فقال : إذا كان لحالته صائنا مشفقا عليها من آفات الأيام ، وسوء دواعي النفس ، وقد صدق العالم في قوله ، وذلك أن المشتاقين لولا أنهم ألزموا أنفسهم التهم والمذلة لسلبوا عذوبات الفوائد التي ترد من الله على قلوب محبيه ، قلت : فما الشوق عندك ؟ قال : الشوق عندي سراج نور من نور المحبة غير أنه زائد على نور المحبة الأصلية ، قلت : وما المحبة الأصلية ؟ قال : حب الإيمان ، وذلك أن الله تعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له ، فقال : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) فنور الشوق من نور الحب وزيادته من حب الوداد ، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد ، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به ، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان ، فإذا أمن على العمل من عدوه لم يجد لإظهاره وحشة السلب ، فيحل العجب وتشرد النفس مع الدعوى وتحل العقوبات من المولى ، وحقيق على من أودعه الله وديعة من حبه ، فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان ، أن يسرع به السلب إلى الافتقاد . 

فلذلك قيل : الحب هو الشوق لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب ، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعا من فروع الحب الأصلي ، وقيل : إن الحب يعرف بشواهده على أبدان المحبين وفي ألفاظهم ، وكثرة الفوائد عندهم لدوام الاتصال بحبيبهم ، فإذا واصلهم الله أفادهم ، فإذا ظهرت الفوائد عرفوا بالحب لله ، ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته ، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه ، وما يوحى إلى قلبه ، فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها ، فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه ، فأبين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر ، وطول السهر بسخاء الأنفس على الأنفس بالطاعة ، وشدة المبادرة خوف المعاجلة ، والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة ، فلذلك قيل : إن علامة الحب لله حلول الفوائد من الله بقلوب من اختصه الله بمحبته.

فالحب لله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه ، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه ، فالحب هائج غالب ، والخوف لقلبه لازم لا هائج ، إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية ، وهدي لأركان شدة الخوف ، وحل الأنس بقلبه لله ، فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله ، فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها ، ومن ذلك قول ضيغم العابد : " عجبا للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر غيرك " ؟ وحدثني أبو محمد ، قال : " أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - : يا داود ، إن محبتي في خلقي أن يكونوا روحانيين ، وللروحانية علم ، هو أن لا يغتموا ، وأنا مصباح قلوبهم ، يا داود ، لا تمزج الغم قلبك فينقص ميراث حلاوة الروحانيين ، يا داود ، هممت للخبز أن تأكله وأنت تريدني ، وتزعم أنك منقطع إلي ، تدعي محبتي ، وأنك قد أحببتني ، وأنت تسيء الظن بي ، أما كان لك علم فيما بيني وبينك أن كشفت لك الغطاء عن سبع أرضين حتى أريتك دودة في فيها برة تحت سبع أرضين ، حتى تهتم بالرزق ، ياداود ، أقر لي بالعبودية أمنحك ثواب العبودية وهو محبتي ، يا داود ، تواضع لمن تعلمه ، ولا تتطاول على المريدين ، فلو يعلم أهل محبتي ما قدر المريدين عندي لكانوا للمريدين أرضا يمشون عليها ، وللحسوا أقدامهم ، يا داود ، إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما ، واصبر على المؤونة تأتك المعونة ، يا داود ، لأن يخرج على يديك عبد ممن أسكره حب الدنيا حتى تستنقذه من سكرة ما هو فيه سميتك عندي جهبذا ، ومن كان جهبذا لم تكن به فاقة ولا وحشة إلى أحد من خلقي ، يا داود ، من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتي " . 

يقول الحارث بن أسد المحاسبي : " علامة أهل الصدق من المحبين وغاية أملهم في الدنيا أن تصبر أبدانهم على الدون ، وأن تخلص لهم النيات من فسادها ، ومنهم من يريد في الدنيا شواهد الكرامات عند سرعة الإجابة ، وغاية أملهم في الآخرة أن ينعمهم بنظره إليهم ، فنعيمها الإسفار وكشف الحجاب حتى لا يمارون في رؤيته ، والله ليفعلن ذلك بهم إذا استزارهم إليه " . 

وحدثني بعض العلماء ، قال : " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام : بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي ، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي ، فكيف إذا صاروا إلى جواري ، واستزرتهم للمقعد عندي ، أسفرت لهم عن وجهي ، فهنالك فليبشر المصفون للرحمن أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب ، أتراني أنسى لهم عملا ؟ كيف وأنا ذو الفضل العظيم ؟ أجود على المولين عني ، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شيء كغضبي على من أخطأ خطيئة ثم استعظمها في جنب عفوي ، ولو عاجلت أحدا بالعقوبة لعاجلت القانطين من رحمتي ، ولو يراني عبادي كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليهم بالظلم في دار الدنيا ثم أوجبت لمن وهبهم النعيم المقيم لما اتهموا فضلي وكرمي ، ولو لم أشكر عبادي إلا على خوفهم من المقام بين يدي لشكرتهم على ذلك ، ولو يراني عبادي كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيقال : لمن هذه ؟ فأقول : لمن عصاني ولم يقطع رجاء مني ، فأنا الديان الذي لا تحل معصيتي ، ولا حاجة بي إلى هوان من خاف مقامي " . 

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية