يقول الحق جلّ جلاله: { ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إِلى اللهِ } أي: إلى الإقرار بربوبيته، والاستقامة على عبوديته، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من أمته، الدعاة إلى الله في كل عصر، أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى معرفة الله، { وعَمِل صالحاً } فيما بينه وبين ربه، بأن عمل أولاً بما دعا إليه، { وقال إِنني من المسلمين } تفاخراً بالإسلام، وابتهاجاً بأنه منهم، واتخاذ الإسلام ديناً، من قولهم: هذا قول فلان، أي: مذهبه لأنه يتكلم بذلك، أو: يقوله تواضعاً، أي: من جملة عامة المسلمين. { ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ } ، هذا بيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب ـ عزّ وجل ـ ترغيباً للدعاة إلى الله في الصبر على إذاية الخلق، لأن كل مَن يأمر بالحق يُؤذَى، فأُمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان.
{ وإِما يَنزغنَّك من الشياطن نزغٌ } ، النزغ: شِبه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان، كأنه ينخسه، يبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً مجاز، كجدّ جدّه، والمعنى: وإن طرقك الشيطان على ترك ما وُصِّيْتَ به من الدفع بالتي هي أحسن، { فاستعِذْ بالله } من شرِّه، وامضِ على حلمك ولا تُطعه، { إِنه هو السميعُ } لاستعاذتك، { العليمُ } بنيتك وتعلقك به، أو: بنزغ الشيطان ووسوسته. وهو تعليم لأمته صلى الله عليه وسلم إذ كان شيطانه أسلم على يده.
الإشارة
يقول سيدي ابن عجيبة : قال القشيري: قيل: الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله، وتَرْكِ طلب العِوَض من الله، بل يَكِلُ أمره إلى الله، ويرضى من الله بقسمة الله. ثم قال: { وعَمِلَ صالحاً } كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه، ويقال: هم الذين عرفوا طريقَ الله، ثم دعوا ـ بعدما عرفوا الطريقَ إلى الله ـ الخلقَ إلى الله، { وقال إِنني من المسلمين } لحكمه، الراضين بقضائه وتدبيره. هـ.
وقال الشاذلي رضي الله عنه: عليك برفض الناس جملة، إلا مَن يدلك على الله، بإشارةٍ صادقة، وأعمال ثابتة، لا ينقضها كتاب ولا سُنَّة. هـ. وشروط الداعي إلى الله على طريق المشيخة أربعة: علم صحيح، وذوق صريح، وهمّة عالية، وحالة مرضية، كما قال زروق رضي الله عنه. وقال الشريشي في رائيته:
وللشيخ آياتٌ إذا لَن تَكنّ له فما هُو إلا في ليالي الْهَوَى يَسْرِي
إذا لَمْ يكن عِلْم لَديْهِ بِظَاهرٍ ولاَ باطنٍ فاضْرِبْ بِهِ لُجَجَ الْبَحْرِ
أما العلم الظاهر فإنما يشترط منه ما يحتاج إليه في خاصة نفسه، ويحتاج إليه المريد في حال سفره إلى ربه، وهو القَدْر الذي لا بُد منه، من أحكام الطهارة والصلاة ونحو ذلك، ولا يشترط التبحُّر في علم الشريعة. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: "صحبت أبا علي المسندي، فكنت أُلقنه ما يُقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صِرفاً". ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد لم يُفتح عليه إلا على يد رجل عامي، وقد تحققت تربية كثير من الأولياء، كانوا أميين في علم الظاهر. وأما علم الباطن فالمطلوب فيه التبحُّر التام؛ إذ المقصود بالذات في الشيخ المصطلح عليه عند القوم هو هذا العلم؛ لأن المريد إنما يطلب الشيخَ ليسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة؛ فيكون عنده علم تام بالله وصفاته وأسمائه، ذوقاً وكشفاً، وعلم بآفات الطريق، ومكائد النفس، والشيطان، وطرق المواجيد، وتحقيق المقامات، كما هو مقرر في فنه، وهذا الداعي لا تخلو الأرض منه على الكمال، خلافاً لمَن حكم بانقطاعه. والله تعالى أعلم.
وفي الإحياء: المقتدى به هو الذي استقام في نفسه، واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره، لا مَن يُظهر خلاف ما هو عليه ليُقتدى به، فإنه مُلَبِّس، لم ينصح لنفسه، فكيف بغيره؟.
قال الورتجبي: ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، أي: ممن عرف الله بعد أن رآه وأحبّه واشتاق إليه، ودعا الخلق إليه، من حيث هو فيه وصَدقه في حاله، يدعو الخلق إلى الله بلسان الأفعال، وصدق المقال، وحلاوة الأحوال، ويذكر لهم شمائل القِدَم وحق الربوبية، ويُعرفهم صفات الحق وجلال ذاته، ويُحبب اللهَ في قلوبهم، وهذا عمله الصالح، ثم يقول بعد كماله وتمكنه: إنني واحد من المسلمين، مِن تواضعه ولطفِ حاله خلقاً وظرافةً، وإن كان إسلامه من قُصارى ـ أي: غاية ـ أحوال المستقيمين.
تفسير البحر المديد ابن عجيبة