الإشارة:
عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفي الحِكَم: " اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك ". وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه.
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة
ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله: " شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان ". فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج:
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا
وقال الورتجبي: الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة