تمهيد :
الوراثة والتوريث
من المعلوم بالضرورة أن الوراثة سنة إلهية في أكثر المخلوقات،وهي في الإنسان تتعدى الصفات والوظائف الفسيولوجية إلى الطبائع، بل إلى الأفكار أحيانا؛ غير أن عامل التربية والتوجيه غالبا ما يمتزج بما هو موروث من هذه الطبائع والأفكار وبما هو مكتسب. ومهما يكن فلا يخفى تأثير الاقتداء والتعليم في توريث التفكير والسلوك.
وإذا كان الإرث في الشرائع والأعراف قانونا يسري على ما يخلفه الميت من المتاع المادي، فإنه لا يسري كذلك على الأنبياء، فقد ورد في الحديث النبوي : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" على أن ما تركوه من مال صدقة ؛ غير أن ما يورثونه حقيقة إنما هو العلم بمفهومه الذي يسع ظاهر الشرع وباطنه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء"، وهي وراثة علم وعمل به من شأنه أن يوصل صاحبه إلى إدراك سر ذلك العلم وهو حقيقة هذه الوراثة.
ولم يكن أولئك الورثة الأوائل إلا الصحابة الذين اختص كل منهم بعلم من العلوم ورثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ورثه إياه، مع اشتراكهم في كثير من العلم والعمل.
أنواع الوصية
1- وصية الميراث :
وحكمها معلوم في الشرع ، وقد حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة"، فانصاع لذلك الصحابة كعهدهم بتوجيهاته عليه السلام، إذ قال عمر رضي الله عنه "لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي، وقد ورد في حديث آخر أن الوصية كفارة لما ترك المسلم من زكاته في حياته، وبلغ من أهميتها أن قال صلى الله عليه وسلم : "المحروم من حرم الوصية" ، غير أن المنايا قد تسبق الوصايا كما قال بعضهم.
2- وصية النصح :
وهي ظاهرة عامة خصوصا عند دنو الأجل ؛ وقد كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة : "الصلاة وما ملكت أيمانكم"؛ وأورد أصحاب الحديث والسير وصايا بعض الأنبياء وغيرهم تختلف باختلاف المواقف والظروف، وفي بعضها نصح للأهل والولد أو لسائر الناس.
3- وصية الاستخلاف : لما كان الدين الإلهي في جوهره "أمانة"، وكان الصحابة رضي الله عنهم عميقي الفهم والشعور بالدين على أنه كذلك، فقد حرصوا على تبليغ هذه الأمانة كاملة، كما كان تابعوهم شديدي الحرص على التأسي بهم في الحفاظ على جوهر الدين والاجتهاد في العمل به؛ وقد كان مبدأ السندية من أهم العوامل في حفظ العلوم كما تجلى ذلك في رواية الحديث، وفي نقل العمل عن طريق الاقتداء. ولم يكن ذلك الحفظ ولا هذا الاقتداء مجرد استظهار أو تقليد مجردين، بل كان يربط بين المتعلم والقدوة رابطة المحبة الممزوجة بتعظيم المتلقي لمن يأخذ عنه، وبعطف الشيخ على تلميذه والحرص على نفعه، ذلك أن العلم والعمل كانا وجهين لعملة الدين التي تزداد قيمتها بعنصر المحبة الخالصة في الله بين العالم العامل والمتعلم المقتدي بالعمل ؛ ومن ثم كانت صحبة العلم والعمل الخالصين لوجه الله أشرف علاقة بين إنسانين في الإسلام.
ولأن الله متم نوره وحافظ ذكره، فقد شاءت حكمته تعالى أن يهيئ ورثة النبوة عالما بعد عالم ويؤهلهم بأخذ العلم والعمل عن أساتذتهم ويحلي كلا من الطرفين بمحبة الطرف الآخر في الله حتى تبقى الوراثة حية في القلوب حافزة على الاجتهاد محافظة على الأمانة بكل أمانة؛ ذلك ما حفز الباحثين عن الحق الباذلين في سبيله أنفسهم وأموالهم على الأخذ عن مشايخ التربية الروحية كما بذل هؤلاء للمخلصين من مريديهم ما عرفوا وخبروا متابعين للمشيئة الإلهية في استخلاف من تيقنوا فيه اختيار تلك المشيئة، أو تاركين الأمر دون تعيين أدبا مع مطلق المشيئة كذلك.
لقد كان من الصنف الأول الشيخ المجدد سيدي أبو مدين بن المنور شيخ الطريقة القادرية البودشيشية ، الذي كان له أبناء مريدون بلغوا درجات عليا في المعرفة الصوفية، ولكنه امتثالا للمشيئة الإلهية التي هي من مقتضيات معرفته بالله، استخلف رجلين للقيام بوظيفة التربية تباعا وهما سيدي العباس بن المختار، وابنه سيدي حمزة بن العباس الذي كان سيدي أبو مدين يحبه محبة خاصة، ولم يكن سيدي العباس راغبا في المشيخة، بل إنه حاول الاعتذار لسيدي أبي مدين، غير أن هذا الشيخ الأمين أكد له أن الأمر ليس اختيارا بشريا ولكنه أمر رباني. وتأدب سيدي حمزة مع أبيه في الاكتفاء بمساعدته على نشر الطريقة وتعليم المريدين. ولما جاء أجل الشيخ سيدي العباس كتب وصيته لابنه العارف بالله، امتثالا لمشيئة الله، وتنفيذا لوصية شيخه، وشهد على هذه الوصية المكتوبة كبار الطريقة آنذاك.
وبعد انتقال الشيخ سيدي حمزة بن العباس الى الرفيق الاعلى ترك وصيته بخلافته في تلقين الذكر والدعوة إلى الله لابنه العارف بالله سيدي جمال الدين رضي الله عنه من بعده ثم حفيده سيدي منير عقب ذلك، مذكرا بمبادئ عدة تهم الذكر والطريقة البودشيشية، متبرئا من كل من لم يلتزم بوصيته بالقول:"كل من خالف العمل بهذه الوصية، فإننا والطريقة منه براء".
الصورة : نص الوصية