أما شيخ التعليم فمستنده واضح، لأن لا علم إلا بتعلم، ولا تعلم إلا من معلم، وقد تكفي دونه الكتب للحاذق الفهم، مع نقص في إدراكه وحظه، كما قيل:
ولا بد من شيخ يريك شخوصها ... فتعرفها بالاسم والعين أقطع
وإلا فنصفا العلم عندك حاصل ... ونصف إذا حاولته يتمنع
وقد قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}الآية، وقال الغزالي في المنهاج ما معناه: إن الكتب كافية، ولكن الشيخ فاتح، والله أعلم.
وأما شيخ التربية فدليله: {واتبع سبيل من أناب إلي} وكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه في دينهم ودنياهم على حسب ما يراه لهم، فأباح لقوم سرد الصوم، ومنع قوما منه، وتفقد فاطمة وعليا لقيام الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة، وأسر إلى بعض أصحابه أذكارا، وأطلق بعضها في العموم، وكان يحدث حذيفة بالحوادث لاستعداده لقبولها، ولا يسرها لغيره، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولا يخفى على متأمله، وقيل في قوله تعالى: {كونوا ربانيين} علماء حكماء، قال ابن عباس: والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ذكره البخاري، وغيره.
وأما شيخ الترقية فمستنده قول أنس رضي الله عنه:"ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه صلى الله عليه وسلم حتى وجدنا النقص في قلوبنا"، فأفاد أن رؤية شخصه الكريم كان مفيدا لهم، فكذلك من له نسبة منه بطريق الوراثة العلمية، ومن ثم كان النظر إلى العالم عبادة ، وجاء في الخبر:"إن لله عبادا من نظر إليهم نظرة سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا" ، وفي الصحيح: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" وما ذاك إلا لاختصاصهم برؤيته صلى الله عليه وسلم على القرب، ثم رؤية من رآه كذلك، فافهم، وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه:"إذا كانت السلحفاة تربي ولدها بالنظر فكيف بالعارف أو الولي"، وقال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه:" فهنيئا مريئا لمن ذاق أو ذاق بعض ما ذاق أو رأى من ذاق"، فقد قيل: المطر قريب عهد بربه فيستحب البروز فيه، والتبرك عند نزول المطر، هكذا ذكر الشارع صلى الله عليه وسلم وهو مطر من السحاب، فما ظنك بالمؤمن العارف بالله، قلت: وهذا إذا كان نظره من حيث خصوصيته، لا من حيث، العموم، لأن الانتفاع بحسب النية على قدر الهمة، لا مجردا عن القصد، إذ أكمل كل عمل وتأمله بحسن النية فيه، فافهم.
قال في لطائف المنن: وإنما يكون الاقتداء بشيخ دلك الله عليه، وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته، فألقيت إليه القياد، فسلك بك سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك، وكمائنها ودفائنها، ويدلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار مما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله تعالى، يوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك، فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه والقيام بالشكر إليه، والدوام على ممر الساعات بين يديه .
فإن قلت : فأين من هذا وصفه ولقد دللتني على أغرب من عنقاء مغرب، فاعلم أنه لا يعوزك وجود الدالين، ولكن قد يعوزك وجود الصدق في طلبهم، جد صدقا تجد مرشدا، وتجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} وقال سبحانه: {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} فلو اضطررت إلى من يوصلك إلى الله تعالى اضطرار الظمآن إلى الماء البارد، والخائف للأمن _ لوجدت ذلك أقرب إليك من وجود طلبك، ولو اضطررت إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدته لوجدت الله منك قريبا ولك مجيبا، ولوجدت الوصول غير متعذر عليك، ولتوجه الحق تعالى بتيسير ذلك إليك، قال ابن عباد رحمه الله تعالى: وفي كلامه تنبيه على أن الشيخ من منح الله تعالى وهداياه للعبد المريد إذا صدق في إرادته، وبذل في مناصحة مولاه جهد استطاعته، لا على ما قد يتوهمه من لا علم له، وعند ذلك يوفقه الله تعالى لاستعمال الأدب معه، لما أشهده من عالي مرتبته، ورفيع درجته انتهى، وهو حسن جدا، وبالله التوفيق، ومنه الهداية.
عدة المريد الصادق