الأكثر جعلوا المراد والمريد اثنين ،وجعلوا مقام المراد فوق مقام المريد ، وإنما أشاروا باسم المراد إلي الضنائن الذين ورد فيهم الخبر ... منازل السائرين للإمام الهروي .
ومن الناس من يقول : المريد ينتقل من منزلة الإرادة إلى أن يصير مرادا فكان محبا . فصار محبوبا . فكل مريد صادق نهاية أمره أن يكون مرادا . وأكثرهم على هذا . و صاحب " المنازل " كأن عنده المراد هو المجذوب ، والمريد هو السالك على طريق الجادة .
وقالوا : المريد من يسبق اجتهاده كشفه وسلوكه جذبه ،والمراد من يسبق كشفه اجتهاده ، وجذبه سلوكه ، فالمراد واصل بمحض الإجتباء والإصطفاء ،والمريد مهدي إلي الله بعد الإنابة ،"وإنما أشاروا باسم المراد إلي الضنائن الذين ورد فيهم الخبر" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ يَضِنُّ بِهِمْ عَنِ الْبَلاءِ ، يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ ، وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فِي عَافِيَةٍ ".
والضنائن : الخصائص . يقال : هو ضنتي من بين الناس - بكسر الضاد - أي الذي أختص به وأضن بجودته ، أي أبخل بها أن أضيعها .
وحاصله: أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه:
{ ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ } فقد خُص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي: والمراد: ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا.
والدرجة الثانية: أن توضع عن العبد عوارض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل؛ حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهم السلام .
عوارض النقص أي عيبه ، أي أسبابه ،(ويعافيه من سمة اللائمة ) أي اللوم ، فإن تلك الأسباب إذا عرضت له استحق اللائمة ،فإذا وضعها الحق عن عبده لم يعتبه عليها ، وذلك دليل أنه من ضنائنه (ويملكه عواقب الهفوات ) ، لأن الهفوة إذا صدرت ممن هو مراد كانت العافية فيها زيادة خير له ، فهفوته حصول كمال وسعادة له لأنه تعالي جعل له في كل قضاء خيرا فيجعل هفوته سبب توبة تجدد له من القرب والكمال أضعاف ما كان له قبل الهفوة وذلك أن ظهور الكمالات الإلهية علي العبد بفناء صفات نفسه ورفع حجاب أنانيته وقد يكون بعض الكمالات والسعادات له ممنوعة عن الظهور إلي الفعل من القوة بصفات نفسه كالعجب فإذا ابتلي بهفوة انكسرت نفسه فتاب واستغفر وأناب حتي امتحت صفات نفسه المانعة ، ارتفعت الحجب وظهرت تلك الكمالات وذلك من عناية الله بعبده وتمليكه عواقب الهفوات .
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري: وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته.
الدرجة الثالثة : اجتباء الحق تعالي عبده ، واستخلاصه إياه "أي جعله خالصا - --- بخالصته - أي بنفسه ، وهو اصطناعه لنفسه (كما ابتدأ موسي ، وقد خرج يقتبس نارا ، فاصطنعه لنفسه ، وأبقي منه رسما معارا ) إذ رده بالدعوة لخلقه أي أعارهم رسمه الظاهر من صورته .