(إِذَا أَطْلَقَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَلَسْتَ بِأَهْلٍ فَأَثْنِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ)
إذا أطلق الله تعالى الثناء عليك على ألسنة خلقه بما لا تعلمه من نفسك ولست بأهل له فأثن على الله بما هو أهله، أي بما يستحقه من التعظيم ليكون ذلك شكراً لنعمة إطلاق الألسنة بالثناء عليك، وأيضاً فإنه هو الذي ستر عنهم مساويك واظهر لهم محاسنك ولو أظهر لهم ذرة من مساويك لمقتوك وأبغضوك فإن العبد محل النقائص والحق تعالى محل الكمالات، فكل ما ظهر عليك من الكمالات فإنما هي رشحة من كمالاته تعالى، فالثناء في الحقيقة إنما هو لله فإذا وقع عليك فرده أنت إلى أصله،اثنى على بعض السادات وهو ساكت فقيل له في ذلك فقال:" وما علي من ذلك ولست أغلط في نفسي بل لست في البين والمجرى والمنشي هو الله تعالى"،هذه حالة أهل الجمع.
فالناس في حالة المدح والذم على ثلاثة أقسام :
قسم يفرحون بالمدح ويكرهون الذم لأن نفوسهم غالبة عليهم ولا شك أنها تفرح بالعز والرفعة وتنقبض بالذم والضعة وهم العوام الغافلون.
وقسم يكوهون المدح ويحبون الذم لأنهم في مجاهدة نفوسهم فكل ما يؤلمها ويقتلها أقبلوا عليه وكل ما يحييها ويقويها فروا منه وهم العباد والزهاد والسائرون من المريدين.
وقسم يفرحون بالمدح لشهوده من مولاهم وينقبضون من الذم لشهودهم جلال من تولاهم وهم العارفون.
وقد أشار إلى القسم الثاني والثالث بقوله :
(الزُّهَّادُ إِذَا مُدِحُوا انْقَبَضُوا لِشُهُودِهِمُ الثنَاءَ مِنَ الخَلْقِ ، وَالْعَارِفُونَ إِذَا مُدِحُوا انْبَسَطُوا لِشُهُودِهِمْ ذَلِكَ مِنَ المَلِكِ الحَق)
أما العباد والزهاد فلأنهم محجبون برؤية الخلق عن شهود الحق، فإذا مدحوا شهدوا ذلك من الخلق، وحجبوا عن الجمع بالفرق فانقبضوا وخافوا على نفسوهم أن تغتر بذلك أو تقف هنالك وهم عاملون على ما تموت به نفوسهم وتحيي به قلوبهم، ولا شك أن المدح لها فيه حظ وافر، فربما تميل إلى ذلك فتعتقد المزية على الغير فيوجب لها التكبر والرضى وهما أصل كل معصية، واما الذم فلاحظ لها فيه إنما فيه موتها وفي موتها حياتها فلذلك إذا مدحوا انقبضوا، وإذا ذموا انبسطوا.
وأما العارفون الواصلون، فلأنهم فانون عن أنفسهم، باقون بربهم، غائبون عن الخلق بشهود الملك الحق، فإذا أثنى عليهم رأوا ألسنة الخلق أقلام الحق، وشهدوا الجمع في عين الفرق، ففرحوا بمدح مولاهم وانبسطوا عند من تولاهم، فيزدادون له حباً وشوقاً ،ويفنون فيه شغفاً وعشقاً.
وفي تعبير آخر : الناس في المدح والذم على أربعة أقسام :عوام جهال، وعباد زهاد ومريدون سالكون ،وعارفون واصلون.
فأما العوام : فنفوسهم غالبة عليهم،ودائرة الحس محيطة بهم محط نظرهم الخلق،غافلون عن طلب الحق إذا مدحوا وأقبل عليهم الخلق فرحوا وبطروا لنيل مرادهم وتحصيل أغراضهم،والنفس الأمارة مجبولة على حب الإمارة وإذا ذموا وأدبر عنهم الخلق انقبضوا وحزنوا لفوات ما أملوا فهؤلاء قلوبهم خربة من النور .
وأما العباد والزهاد : فهم مجتهدون في العبادة،فارون من الخلق،طالبون رضى الحق ،مستوحشون من الناس،تحققوامنهم الإياس،فإذا أقبلوا عليهم بالمدح والثناء انقبضوا وخافواأن يشغلوهم عما هم فيه، وإذا ذموا وأدبر عنهم الخلق فرحوا وانبسطوا لتفرغهم حينئذ للعبادة وإقبالهم على ما هم عليه من المجاهدة .
وما المريدون السالكون : فهم عالمون على قتل نفوسهم وحياةقلوبهم،فإذا ذموا وأدبر الخلق عنهم فرحوا لما في ذلك من موتنفوسهم وحياة قلوبهم،وإذا مدحوا انقبضوا خوفاً على قوة نفوسهم وضعف قلوبهم،إذ في موت النفس حياة القلوب وفي حياة القلوب موت النفوس .
وأما العارفون : فقد ظفروا بنفوسهم،ووصلوا إلى شهود معبودهم ،فهم يستأنسون لكل شئ، لمعرفتهم في كل شئ يأخذون النصيب من كل شيء ،ويفهمون عن الله في كل شئ فإذا مدحوا انبسطوا بالله لشهودهم المدح من الله وإلى الله ولا شئ في الكون سواه،وليس أحد أحب إليه المدح من اللهكما في الحديث وإذا ذموا انقبضوا تأدباً مع جلال الله أو شفقةعلى عباد الله :" من عادى إلى ولياً فقد آذنته بالحرب ".
فصار بسطهم بالله وقبضهم بالله واستغنوا به عما سواه وبهذا المعنى وهو الفناء على النفوس صح مدحهم لأنفسهم،تحدثاًبما أنعم الله عليهم،كالشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه والشاذلي والمرسي والشيخ زروق وأشباهمهم رضي الله عنهم وذلك مشهور عنهم نظماً ونثراً، ومن أجل ذلك أيضاً أقروا من مدحهم وأظهروا الانبساط عند مدحهم.
ومدح الشيوخ من أعظم القربات وأقرب الوسائل إلي الوصول إذ هم باب الله الأعظم ،ويد الله الآخذة بيد الداخلين إلى الحضرة فمن مدحهم فقد مدح الله : { إن الذين يبايعونك إنما يباعيون الله} ومن ذمهم فقد ذم الله ، وكذلك مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هو باب عظيم في الوصول إلى حضرة الكريم .
إيقاظ الهمم في شرح الحكم