الايمان اصل جميع المعاملات والحالات والدرجات والمنازلات وهو اصل جميع الخيرات فى الدنيا والاخرة وهو تعريف الله نفسه لعبده بعد ان جعله عاقلا مستعدا لمعرفته فهما لخطابه ومن الايمان ينشعب هذه الخصال وهذه المقامات فصار قسمة المقامات عشرة مع الايمان والايمان اولها والمؤمن ممتحن ببلايا المعرفة من الله فيذوق مرارة الفرقة بعد ذوق الوصلة فيقع بتوفيق الله السابق فى الازل فيوفضه من نوم الغفلة وينبهه من قدرة الفرقة حتى يتنبه ويفتح عين قلبه فيعرف ما افسد النفس والشيطان فى مضارع قلبه بذئاب الشهوات وسباع الشبهات ويرى خيول الهوى فى محل الروح الناطقة فيهيج سره نور الايمان الى اخراجها من منظر نظر الله فيقدس اسراره من النظر الى الاغيار ويخرج نفسه من منازل الاغترار ويندم على ما فاته من اوقات الطاعات ويرجع بالحياء والخجل الى ابواب المداناة وتستانف عمل الارادات حتى يستحق له مرتبة التوبة فيتوب الله عليه بعطف وصاله وكشف جماله فالتائبون قوم رجعوا من غير الله الى الله واستقاموا بالله مع الله ولا يرجعون من الله الى غير الله ابدا ثم يوجب هذه الاوصاف للتائب الصادق في العبادات والمجاهدات والرياضات حتى يذوق طعم العبودية ويجحد الحرية عما سوى الله حتى يكون عبد الله لا بغير الله ويرى مشاهدة الله فى عبادة الله بعين الاحسان ونور الشرقان كما قال سيّد فرسان العالمين فى ميادين المعرفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه " فالعابدون القائمون بالله فى الله عن غير الله فاذا تم هذه النعم لهذا العابد يقتضى حاله حمد المنعم القديم باحسانه السابق للعابد فى الازل بانعامه فيحمده بوصل الخجل وخرس ألسنة اسراره عن البلوغ الى ثنائه فيحمده بلسان حمده بنعت نسيان غيره فى حمده فيحمد منعمه بنعمة تعريف نفسه له فستغفر لسان الحمد من صفته فيصفه بصفته لا بوصفه لان الحادث كيف يطيق ان يحمد القديم الا ترى كيف رأى النبى صلى الله عليه وسلم نفسه عن حمده فى رؤية جلاله مقصرة عن البلوغ الى حقيقة حمده وثنائه بقوله" لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك " فالحامدون الذاكرون الله لجميع الوجود ظاهرا و باطنا سرا وعلانية حتى لا تخلو شعرة منهم إلا ولها لسان من الله يحمد الله به فى جميع الانفاس المستغرقون فى بحار امتنان مشاهدته ثم يقتضى حمده للحامد جسر النفس عن مألوفاتها حين عاين هلال جماله فى سماء الايقان الا ترى كيف قال عليه السّلام " صوموا لرؤيته " ولا يكون فطوره الا حلاوة مشاهدته لقوله عليه السّلام " وأفطروا لرؤيته " فالسائحون السيارون بقلوبهم فى الملكوت الطائرون باجنحة المحبة فى هواء الجبروت ثم الساحة فى اقطار الغيب يقتضى المشايخ الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة والكبرياء فى مراكع الكشوف فيركع بنعت السكر لجبروته فى كل موطن من العالم شوقا الى جود جماله وحسن وصاله فالراكعون العاشقون المنحنيون من ثقل وقار المعرفة على باب العظمة من رؤية الهيبة ثم يقتضى ركوع هذا الراكع شهود اسراره فى منازل الانوار لطلب جمال الملك الغفار جل جلاله وعز كبرياؤه فيسجد عند كل كشف فى كل موضع وحش حتى يصير مدهوشا فى دهشة بديهة كشف جماله من كل قبلة فى العالم فيسجد لجميع الجهات لغيبة فى معاينات الصفات.
تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي