تمهيد
قال زكرياء المكناسي لصديقه :" أنب رجل شابا على تسبيحه بالسبحة وقال له : إن السبحة من البدع المنكرة ، أترك هذه السبحة ، واذكر بأنامل يدك اليمنى ،و إياك من المباهاة وحب الظهور والرياء ! فما تقول في فعل هذا الرجل ؟ "
فقال صديقه :" نعم ، إن السبحة من المناكر المنتشرة بين الرجال والنساء وقد ابتلى بها المسلمون وقلدوا بها اليهود والنصارى والهنود والبوذيين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
فما هي السبحة ؟ وما حكمها ؟
تعريف السبحة ؟
السبحة لغة : مشتقة من التسبيح ، والتسبيح هو : التنزيه . والسبحة يقصد بها : الدعاء ، والصلاة ، والذكر . يقول القائل : قضيت سبحتي : أي ، أنهيت صلاتي ."لسان العرب لابن منظور"
السبحة اصطلاحا :
أداة منظومة من خرزات في خيط أو غيره يعد بها المسبح مرات تسبيحه ، وكانت معروفة عند الديانات السابقة ، وعرفت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منثورة من الحصى أو النوى ، أو خيوط معقودة ." والسبحة بضم السين ، وسكون الباء عقيق وخرز منظوم يعد به الذكر والتسبيح " " تهذيب الأسماء واللغات " للنووي".
حكم السبحة :
أجمع العلماء بلا خلاف بينهم على جواز استعمال السبحة للذكر الكثير ، إضافة إلى استعمال أنامل اليد للأدلة الصحيحة ، واعتبروها من السنن التقريرية التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها قال الإمام السيوطي رحمه الله : " لم ينقل عن أحد من السلف ، ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة ، بل كان أكثرهم يعدونه بها ، ولا يرون ذلك مكروها " كتاب " المنحة في السبحة " ص 47.
وقال ابن الجوزي رحمه الله :" إن السبحة مستحبة ، لما في حديث صفية أنها كانت تسبح بنوى أو حصى ، وقد أقرها صلى الله عليه وسلم على فعلها " .وفي حاشية الصاوي للمالكية قوله :" ويجوز القيطان ، والزر لثوب أو سبحة والخياطة به "( ج 1 / ص 95 ) إلا أن ابن الحاج الفقيه المالكي المشهور ذكر في كتابه " المدخل " خصالا مكروهة في السبحة مما قد يفهم منه أنه يكره اتخاذ السبحة وهو فهم غير صحيح .
الدليل من الكتاب :
قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا "الأحزاب 41 – 42
قال العلماء : من المقرر شرعا أن الوسائل لها حكم المقاصد .
قال الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات : " إن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها ، وإنما هي تتبع المقاصد " وبهذا نفهم أن استعمال السبحة في حقيقتها وسيلة لذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، وتسبيحه بكرة وأصيلا .
والشرع أباح كثيرا من الوسائل المختلفة لتحقيق المقاصد والغايات ، ولم يحجر على الناس استعمالها .
الدليل من السنة :
قالت صفية رضي الله عنها :" دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن فقال : يا ابنة حيي ما هذا ؟ قلت : أسبح بهن ، قال : قد سبحت منذ قمت على رأسك بأكثر من هذا ، قلت : علمني يا رسول الله ، قال : قولي : سبحان الله عدد ما خلق الله من شيء " .رواه الترمذي وغيره.
فهذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على صفية رضي الله عنها استعمال السبحة ، فلو كانت حراما أو مكروها لأشار إلى ذلك ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل .فالخطاب كان موجها إلى نوع الذكر وليس إلى وسيلة الذكر .
نصوص إضافية داعمة :
1 –في سنن أبي داود من حديث أبي نضرة الغفاري قال : " تثويت أبا هريرة بالمدينة ( أي نزلت ضيفا عنده ) ، فلم أر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تشميرا ، ولا أقوم على ضيف منه ، فبينما أنا عنده يوما وهو على سريره له معه كيس فيه حصى أو نوى وأسفل منه جارية له سوداء ، وهو يسبح بها ، حتى إذا نفذ ما في الكيس ألقاه إليها فجمعته فأعادته في الكيس فرفعته إليه ..."رواه أحمد وغيره
فهذان الحديثان يبينان أن السبحة كانت في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وكانوا يستعملونها في الذكر ، مما يدل على أنها كانت معهودة عندهم .
2 – قالت أم يونس بن عبيد رضي الله عنهما :" رأيت أبا صفية - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان جارنا – قالت : "فكان يسبح بالحصى" رواه أحمد في " الزهد "
3 – قال ابن تميمة رحمه الله :" ... وأما عد ( الذكر ) بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن ، وكان من الصحابة من يفعل ذلك " الفتاوى ( ج 22 / ص 506 ) وسئل رحمه الله عما إذا كان الرجل يقرأ القرآن يعد في الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته ؟ فأجاب :
" إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات ، أو يعد تكرار السورة الواحدة مثل قوله ( قل هو الله أحد ) بالسبحة فهذا لا بأس به "
الفتاوى ( ج 22 / ص 526 )
الخلاصـــــــــــــــة :
يتضح من الأدلة السابقة جواز استعمال السبحة لغرض ذكر الله تعالى فهي سنة تقريرية استعملها الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ، والتابعون لهم كسعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء وأبي هريرة ، والحسن البصري وأبي القاسم الجنيد وغيرهم كثير.
وإن محاربة استعمال السبحة ، وإنشاء المعارك حولها لهو من ظواهر الغلو والتطرف ، والأولى هو تشجيع استعمالها خصوصا في هذا الزمان الذي غفل فيه الناس عن ذكر الله وعن الصلاة .
اما الانتقادات الموجهة لحاملي السبحة كحب الظهور امام الناس بمظهر التقوى ؛ او التسلية في اليد ؛ او المباهات وغير ذلك ..فان ذلك لا يقدح في اصل مشروعيتها الدي هو الجواز والاستحباب .
من إعداد الأستاذ: محمد النوة