الحياء خُلُق يبعث على فعل كل مليح وترك كل قبيح، فهو من صفات النفس المحمودة، وهو رأس مكارم الأخلاق، وزينة الإيمان، وشعار الإسلام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء) قالوا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: (ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء).
وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتهر به، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها).
واعلم أَن الحياء يوجب التذويب فيقال الحياء ذوبان الحشا لاطلاع المولى ويقال الحياء انقباض القلب لتعظيم الرب.
قال ابن القيِّم في حقيقة الحَيَاء: (قال صاحب المنازل: الحَيَاء: مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص، يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. إنَّما جَعَل الحَيَاء مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص: لما فيه مِن ملاحظة حضور مَن يستَحيي منه، وأوَّل سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحقَّ سبحانه حاضرًا معهم، وعليه بناء سلوكهم. وقوله: إنَّه يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. يعني: أنَّ الحَيَاء حالة حاصلة مِن امتزاج التَّعظيم بالمودَّة، فإذا اقترنا تولَّد بينهما الحَيَاء، والجنيد يقول: إنَّ تولُّده مِن مشاهدة النِّعم ورؤية التَّقصير، ومنهم مَن يقول: تولُّده مِن شعور القلب بما يستحيي منه، فيتولَّد مِن هذا الشُّعور والنُّفرة، حالةٌ تُسَمَّى: الحَيَاء، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنَّ للحياء عدَّة أسباب).
وقال أيضًا: حياة القلب يكون فيه قوَّة خُلُق الحَيَاء، وقلَّة الحَيَاء مِن موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أحيى كان الحَيَاء أتم.
يَقُول أبو عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ: الحياء ترك الدعوى بَيْنَ يدي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقيل: إِذَا جلس الرجل ليعظ النَّاس ناداه ملكاه عظ نفسك بِمَا تعظ بِهِ أخاك وإلا فاستحيي من سيدك فَإِنَّهُ يراك.- قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (مَن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومَن قلَّ ورعه مات قلبه).- قال الجنيد: الحَيَاء: رؤية الآلاء ورؤية التَّقصير، فيتولَّد بينهما حالة تُسمَّى الحَيَاء، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع مِن التَّفريط في حقِّ صاحب الحقِّ). وقال أبو عبيدة النَّاجي: سمعت الحسن يقول: (الحَيَاء والتَّكرُّم خصلتان مِن خصال الخير، لم يكونا في عبد إلَّا رفعه الله عزَّ وجلَّ بهما).
وقال ابن عطاء: العلم الأكبر: الهيبة والحَيَاء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحَيَاء، لم يبق فيه خير.
وقال ذو النُّون المصري: الحَيَاء، وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربِّك تعالى. وقال أبو عثمان: مَن تكلَّم في الحَيَاء ولا يستحي مِن الله عزَّ وجلَّ فيما يتكلَّم به، فهو مُستَدرَج.
وقال الجريري: تعامل القرن الأوَّل مِن النَّاس فيما بينهم بالدِّين، حتى رقَّ الدِّين.. ثمَّ تعامل القرن الثَّاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثمَّ تعامل القرن الثَّالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمَّ تعامل القرن الرَّابع بالحَيَاء حتى ذهب الحَيَاء، ثمَّ صار النَّاس يتعاملون بالرَّغبة والرَّهبة.
وقيل: مِن علامات المستحي: أن لا يُرَى بموضع يُسْتَحَيا منه.- وقال ابن أبي الدُّنْيا: (قيل لبعض الحكماء: ما أنفع الحَيَاء؟ قال: أن تستحي أن تسأله ما تحبُّ، وتأتي ما يكره) . والحياء من الحياة . ومنه الحيا للمطر ، لكنه مقصور ، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء . وقلة الحياء من موت القلب والروح . فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم .
قال الجنيد - رحمه الله : الحياء رؤية الآلاء . ورؤية التقصير ، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء . وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح . ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق . ومن كلام بعض الحكماء : أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه . وعمارة القلب : بالهيبة والحياء . فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير . وقال ذو النون : الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك ، والحب ينطق والحياء يسكت . والخوف يقلق .
وقال السري : إن الحياء والأنس يطرقان القلب . فإن وجدوا فيه الزهد والورع وإلا رحلا . وفي أثر إلهي ، يقول الله عز وجل : ابن آدم . إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك . وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك . ومحوت من أم الكتاب زلاتك . وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة .
وفي أثر آخر : أوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه الصلاة والسلام : عظ نفسك . فإن اتعظت ، وإلا فاستحي مني أن تعظ الناس .
وقال الفضيل بن عياض : خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب . وجمود العين . وقلة الحياء . والرغبة في الدنيا . وطول الأمل . وقال يحيى بن معاذ : من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب .
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح .
ومعناه : أن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته . فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل : فإنه إذا واقع ذنبا استحيا الله عز وجل من نظره إليه في تلك الحال لكرامته عليه . فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه : ما يشينه عنده .
وفي أثر إلهي : ما أنصفني عبدي . يدعوني فأستحيي أن أرده . ويعصيني ولا يستحيي مني .
وأما حياء الرب تعالى من عبده : فذاك نوع آخر . لا تدركه الأفهام . ولا تكيفه العقول . فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال . فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا . ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام .
وكان يحيى بن معاذ يقول : سبحان من يذنب عبده ويستحيي هو . وفي أثر : من استحيا من الله استحيا الله منه .