آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مؤسسة الزاوية بالمغرب بين الأصالة والمعاصرة

أطروحة دكتوراه الدولة نوقشت بدار الحديث الحسنية بالرباط
إعداد الباحث الدكتور: مولاي جمال القادري بودشيش

بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين،المبعوث رحمة للعالمين،وعلى عثرته الطاهرين وصحابته الغر الأكرمين.
يشرفني ويسعدني أن أتقدم إليكم اليوم بهذا العمل المتواضع الذي يهتم بتسليط الأضواء الكاشفة على جانب جوهري هام في العلوم الإسلامية، إن لم نقل إنه أسها المتين وركنها الركين، ألا وهو التصوف. ذلك لأن التصوف يهتم بالجانب الروحي والخلقي المتمثل في تزكية النفس، ولا يهمل الجانب العلمي من العبادات البدنية والمالية وشؤون الحياة، معالجا كل ذالك بحكمة.فهدف التصوف هو بناء شخصية الإنسان المسلم، وتأسيس المجتمع على أساس من الفضيلة والخلق السليم، والتمسك بمبادئ الدين القويمة وتعاليمه السامية وأن تحل الأخلاق الفاضلة بين أفراده مقام القانون بأن يكون للمسلم وازع من ضميره يدفعه إلى الحرص على الكمال وطلبه.
إن الأمة التي تريد أن تهيئ لنفسها مستقبلا سعيدا ليس في طوقها أن تحقق ذالك إلا إذا وصلت بين ماضيها وحاضرها، فانتفعت بما خلفه أسلافها من عقيدة راسخة وإيمان عميق ومبادئ سامية ومثل كريمة وقيم أخلاقية، تركت أثرها الواضح في حياة الناس وأحاسيسهم وتجاوبت مع آمالهم وأهدافهم.فمما لاشك فيه أن التسلح بالقيم الروحية يولد طاقة دافعة للتقدم ورغبة صادقة في الإصلاح وعزيمة قوية لا تعرف الكلل ولا يحطمها اليأس ولا يعتريها الملل.ومن أجل ذالك كان المغرضون ومافتئوا يحاولون تحطيم هذا العلاج الروحي بوسائل مختلفة من بينها اصطناع تأويلات تتصادم مع جوهر الدين وحكمته الكريمة الهادية.
ومن مظاهر هذا التصادم المفتعل ما يرمون به التصوف بأنه متخلف عن ركب الحياة وانه حجر عثرة في طريق تقدم الأمة وازدهارها،وأن أصحابه في واد والمجتمع في واد آخر، وأنه لانطلاقنا لابد أن نتخلص منه حتى نصل إلى غايتنا في تحقيق السمو الحضاري المنشود. آجل، هكذا يقولون لأنهم اعتقدوا أن الحياة مادة فحسب.وأن المجتمع في إمكانه أن ينطلق دون أن يكون للنواحي الروحية حساب أو اعتبار في سموه. ولأنهم اعتقدوا إلى جانب ذالك أن التصوف سلبية وكسل وخمول، واعتبروا أن الصوفية جميعهم هم أصحاب الملابس المهلهلة أو العبارات الشاطحة أو الغيبيات الطائشة. وهذا فهم خاطئ البتة للتصوف والصوفية. فالتصوف في حقيقته سمو ورفعة، وهو تعطش دائم للمعرفة ونزوع للخشية وملازمة للتقوى ومجانبة للهوى وتحل بمكارم الأخلاق، وهو يقين كامل وشوق متقد. وحب لله لا تنطفئ جذوته ولا تخمد شعلته. لهذا كان الصوفية عبر التاريخ نماذج للجمال الخلقي، ونماذج للكمال التعبدي والإيماني، ونماذج عالية سامقة في أفق العلم والمعرفة.
هذه بعض الدواعي التي دفعتني إلى بحث موضوع " مؤسسة الزاوية في المغرب بين الأصالة والمعاصرة". وإن هذه الدراسة محاولة لتصحيح وتقويم تصور ساد بين كثير من الناس ومن بينهم بعض الباحثين الذين هم في حيرة فكرية وبلبلة علمية أمام ما يجدونه من كتابات ويسمعونه من أقوال عن التصوف.إنها محاولة انتشال القارئ من المتاهات التي ظل فيها مشتتا بين عقله ووجدانه باحثا عن الحقيقة التي غطاها انحراف الهوى. خاصة وأن الحركة الإسلامية المعاصرة في حاجة إلى نظرية واضحة عن التصوف وعن السير الروحي. لأن من شأن هذه النظرية أن تعصم من الانجراف مع التيار المغالي أو مع التيار المعادي على غير بصيرة. ولأن السير الروحي لأصحاب الاجتهادات الإسلامية شيء لابد منه حتى تستقيم مسيرتهم فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ولا تطرفا ولا زمتا. فلا سبيل إلى حصول التكامل في اليقظة الإسلامية إلا بطريق ينفد إلى أعماق التجربة الإيمانية ويبلغ الغاية في التغلغل فيها، حتى إذا أدرك الداخل فيها نصيبا من هذا التغلغل، كان حاملا له على التحلي بمكارم الأخلاق، لأن الصوفي الصادق يتأسى بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وقد سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن" ومعلوم أن القرآن الكريم دعا إلى كل خلق سني ونهى عن كل خلق دني. وقد بلغ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستوى خلقه الغاية التي أثنى عليها رب العزة في قوله الكريم: "وإنك لعلى خلق عظيم". ومن هنا وجب أن تقوم التربية الروحية بين المسلمين ليأخذ المسلم دينه علما وعملا وحالا من ورثة الأخلاق النبوية، وهم الذين اصطلح على تسميتهم: بشيوخ التربية الصوفية.فكان ولا يزال التصوف هو العلم الذي يطالب به كل إنسان نظرا لارتباطه بأعمال يطالب بها كل إنسان لصلاح القلب وتزكية النفس، مصداقا لقول الله تعالى: "قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى". ولقوله تعالى كذالك: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين".
فتزكية النفوس وتطهيرها مما يشوبها من أدران وأمراض، والسمو بها عبر المقامات الروحية الراقية وراثة نبوية ورثها شيوخ التربية الصوفية، وهم يمارسونها في مؤسسة الزاوية. فلا غرو إن اكتشف الباحث المصنف المتبصر إشعاع مؤسسة الزاوية النوراني يبدد ظلمات الجهل والضلال الانحراف والأثرة. ويحطم أصنام الأنانية والغرور والهوى والرياء وحب التسلط ، وينشر العلم والهدى ويقوي روح التسامح والتكافل الاجتماعي والإيثار وحب الخير والتواضع. لأن شيوخ الصوفية يشربون من المصادر الينبوعية للإسلام، فهم لا يفترون عن تلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته والعمل بها ويكثرون من ذكر الله تعالى ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتأسي به في سنته والتخلق بأخلاقه. ولا يسأمون من الدعوة إلى الله على بصيرة، وإرشاد الخلق ودلالتهم على حقيقة التوحيد وتصفية القلوب من السوى، وترسيخ الإخلاص في الحركات والسكنات والاعتقاد والمعاملات.
فمن وظائف الزاوية الأساسية التربية الروحية التي تستهدف تزكية النفوس وتأهيلها لحضرة الله تعالى. وهناك وظائف أخرى عمل هذا البحث على بيانها.
و لقد واجهتني صعوبات جمة أثناء إنجاز هذا العمل من بينها :
أولا : كون التصوف يرتبط بالوجدان، وهو تجربة شعورية عبر مسار روحي تتفتح آفاقه و تتوسع بقدر التعمق في هذه التجربة الإيمانية. و من المعلوم أن ما له ارتباط بالروح و الشعور و الوجدان يجد الإنسان صعوبة في وصفه و التعبير عنه، و التصوف مسألة ذوقية إيمانية من خاصية الروح و الوجدان.
ثانيا : تباعد الفترات الزمنية يؤدي إلى تنوع الاصطلاح والمنهج. فالشيخ المربي مؤسس الزاوية ابن عصره وهو يتبع المنهاج التربوي الملائم لعصره والمناسب لمريديه. لذا قيل الصوفي ابن عصره. فمثلا هناك من كان يشترط لبس المرقعة، وهناك من كان يشترط الخلوة، وهناك من كان يشترط وضع السبحة في العنق إلى غير ذالك. ورغم تعدد وتنوع الأساليب الاصطلاحية لقهر النفس وقمع رعونتها وكسر أنانيتها، فإن جوهر التربية الصوفية يبقى واحدا لا يتغير. 
ثالثا : محاولة تقريب هذا الجوهر الصوفي إلى مدارك العقول يستلزم الاستدلال على أمور لا تحتاج إلى استدلال. بل هي أصل وأس الاستدلال. مما جشمني عناء ومشقة البحث والتنقيب في بطون أمهات الكتب عن الأدلة النقلية والعقلية. ذالك لأننا ابتلينا في عصرنا هذا ببعض من يطالبون بالدليل على كل ممارسة وإن كانت من المعلوم من الدين بالضرورة، أو من باب التواثر العملي خلفا عن سلف إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهم يعرضون عن التواثر العملي ويطالبون بالدليل القولي. فنجدهم يقولون مثلا : ما دليلكم على السبحة؟ ما دليلكم على ذكر "هو هو " ما دليلكم على الحال؟ ما دليلكم على اتخاذ الشيخ المربي؟ فأصبح الصادق مطالبا بالدليل على الرغم من صدقه. ولله در الشاعر القائل : وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل
لأن المطالب بالدليل في ميدان التصوف يغدو مغالطا إن اشترط الدليل النظري، لأن التصوف تجربة روحية مبنية على السند والدليل العلمي.
رابعا : اضطررت (في بعض المباحث) إلى الاستناد إلى الرواية الشفوية لأنني لم اعثر على مصادر مكتوبة، وفد اعتمدت في تبني تلك الرواية الشفوية على ما تواتر منها على ألسنة الثقات من الثقات.
تلكم كانت بعض الصعوبات التي اعترضت هذا البحث، ولقد كان للتوجيهات السديدة والإرشادات المفيدة التي كان ينير بها طريقي الأستاذ المشرف السيد عبد السلام الأدغيري أقوى دعم واكبر سند لتجاوز الصعوبات. فله أزجي عاطر الثناء وله من الله تعالى أوفر الجزاء.
أما عن محتوى هذا البحث فقد قسمنا كل باب منها إلى فصول، ثم اتبعنا ذالك بخاتمة. ولقد اختص الباب الأول بالنظر في مسألة الدراسة التأصيلية للزاوية وتحديد بعض أوجه الاشتراك أو الاختلاف بين المؤسسات الدينية في الإسلام، ومن بينها: المسجد والرباط والزاوية والمصلى. ثم انتقلنا بعد إبراز ميلاد المؤسسات الدينية في المشرق إلى استعراض للفتح الإسلامي للشمال الإفريقي وما واكبه من مؤسسات دينية بالمغرب. ثم تطرقنا إلى بعض أسباب استقلالية مؤسسة الزاوية عن المسجد، بعد إبراز وظائف المسجد واستقلال بعض المؤسسات ببعض هذه الوظائف. ثم انتقلنا إلى توضيح الأسس التي تدل على ضرورة وجود مؤسس الزاوية لتقوم الزاوية بوظائفها.
وقد تولى الباب الثاني بيان وظائف الزاوية الدينية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
واختص الباب الثالث بإبراز نماذج الزوايا المغربية والتعريف بمؤسسيها ووظائفها في عصرها فجاء وفق ترتيب كرونولوجي مند الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي إلى القرن الرابع عشر الهجري.
أما الباب الرابع والأخير فخصصناه للتصوف المعاصر من خلال نموذج الزاوية القادرية البودشيشية مستعرضين أصولها وتاريخ دخولها على المغرب ومؤصلين ممارساتها الصوفية، ومبرزين ابرز رموزها ومجدديها. ثم اتبعنا كل ذالك بخاتمة لخصنا فيها ابرز النتائج التي توصلنا إليها من خلال البحث. وديلنا البحث بفهارس تيسر للباحث العثور على ما يرومه من معطيات يود معرفتها.
وبالنظر إلى هذه المنهجية يتبين بوضوح أنها انبنت على تقسيم رباعي في الأبواب: الباب الأول في التأصيل، وفي الباب الثاني في الوظائف، وأن النماذج في البابين الثالث والرابع هي دراسة تطبيقية بعد البابين السابقين. ولا يسع الباحث في موضوع يجمع بين الأصالة والمعاصرة إلا أن يعالجه كذالك، فثمة الإطار النظري المتمثل في التأصيل، والباب الثاني في الوظائف وأن النماذج في البابين الثالث والرابع هي دراسة تطبيقية بعد البابين السابقين. ولا يسع الباحث في موضوع يجمع بين الأصالة والمعاصرة إلا أن يعالجه كذالك، فثمة الإطار النظري المتمثل في التأصيل والوظائف، ثم الإطار العلمي المتمثل في النماذج: أولا نماذج عامة للزوايا في المغرب. ثانيا : نموذج الزاوية القادرية البودشيشية في تاريخ المغرب الحديث. وبذالك تكون المنهجية المعتمدة والبحث منسجمة مع قواعد التقسيم وفلسفة وضعه، معتبرة لضوابط البحث العلمي وقواعده، خادمة للبحث في أصوله وفروعه وفي كليلته وجزئياته.
هذا من وجه، و من وجه آخر فالأطروحة المعروضة عليكم للمناقشة تتضمن تجديدا في الطرح لمؤسسة الزاوية يتجلى بوضوح في الباب الرابع الذي جاء تتويجا للأبواب السابقة والذي خصص كدراسة عملية حديثة للزاوية القادرية البودشيشية نقف من خلالها أصلا على مقام الإحسان: المدار الذي ينبني عليه التصوف والذي يكتمل به الدين. فالفقه في العبادات يقف عند ظواهرها والتصوف ينفد إلى بواطنها. فلا عبادة دون إخلاص، ولا إيمان لمن لم يدق طعمه، ولا سير نحو الله تعالى دون تدرج في تربية النفس والقلب والروح، وفي المقامات من محبة وصبر وتوكل وغيرها، يعيشها السالك في سيره وجدانا لا كلاما عملا لا حبرا، فالمنتهى إلى الله تعالى في أن في أن تعبده كأنك تراه، ونقف من خلالها طبعا على مدى صدق التصوف ورجاله ومدى توقف المجتمع المعاصر على مثل هذه التجربة لضمان سلامة أفراده وقيمه وأخلاقه. فالتصوف يبدأ حين يقف الفقه و والقانون عن النفاذ إلى قلب المرء وباطنه من أجل إصلاحه: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله آلا وهي القلب " الحديث كما في رواية البخاري ومسلم. وإشكالية الإصلاح في الظاهر والباطن وفي اللسان والقلب، تعرف صعوبات جمة في ضبطها وحبك خيوطها وتشخيص الداء فيها، ذالك أن القانون ينظر إلى علاقته مع نفسه،ومعيار استقصاء النية يختلف بينهما، فالقانون يهتم بالسلوك الخارجي للإنسان، والأخلاق بباطنه أي بنيته، فقد يضمر مالا يظهر والعياذ بالله، وثمة يصعب الإصلاح، وقد يلتبس الأمر في فهم السلوك الخارجي للأفراد: هل يطابق نواياهم أم لا؟ وموضوع التصوف هو الحفر في أغوار هذه النية لإصلاحها وتامين المجتمع من مكابدها.
ومع هذا فإن البحث في مؤسسة الزاوية يظل حقل بحث مستمر لاستثمار أكثر واستنتاجات أنضج وأوفر.ذالك راجع لغنى التجربة الروحية وتنوع جوانبها وتدفق عطاءاتها. ولئن جرى العرف الأكاديمي على أن يقدم الباحث خاتمة أهم النتائج التي توصل إليها فإن هذا العرف يجعلنا ملزمين (مع الاعتراف بتقصيرنا) بإبراز النتائج التالية:
1ـ تأكد لنا خطر الأطروحة التي روج لها بعض المستشرقين ورددها وتبناها بعض الكتاب المعاصرين. ومفادها أن لفظ "الزاوية" بدأ يحل تدريجيا محل الرباط في المصادر ابتداء من القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي. ذالك لأننا عثرنا على ورود مصطلح "الزاوية" في مصدر عريق، ويعتبر من أمهات مصادر العلوم الإسلامية ألا وهو صحيح البخاري، حيث ورد فيه قوله في ترجمة لباب من أبواب كتاب الجمعة: "باب من أين تؤتى الجمعة؟وعلى من تجب؟ لقول الله عز وجل :" إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة." وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت النداء أم لم تسمعه.وكان أنس رضي الله عنه في قصره أحيانا يجمع وهو بالزاوية على فرسخين" ومن المعلوم أن أنس بن مالك رضي الله عنه صحابي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. وقد توفي سنة تسعين هجرية، وهو آخر صحابي مات بالبصرة، ولعل ما يزيد استخدام مصطلح "الزاوية" مند فجر الإسلام تأكيدا ما نجده في كتب شراح صحيح البخاري. فمن ذالك ما قاله بدر الدين العيني في عمدة القاري: " الزاوية هو موضع ظاهر البصرة بينها وبين البصرة فرسخان " وقال الإمام بن حجر في فتح الباري: " الزاوية ظاهر البصرة معروف وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي فرسخين على البصرة." فهذ الاسم إن كان علما يدل على مكان معين، يرجح أنه ارتبط بالاعتكاف على العبادة واشتق منها.
فمؤسسة الزاوية والتربية الصوفية متجذرة في البيئة الإسلامية لفظا ومعنى، مصطلحا ومضمونا، وليست مستوردة ولا مستنبتة ولا مزروعة في كيان الأمة الإسلامية. بل إنها من أصالتها مند عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
2ـ تتهاوى أيضا الأطروحة التي أرجعت ظهور التصوف بالمغرب إلى القرن الخامس الهجري الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي، والتي روج لها ورددها ترديدا ببغائيا كثير من المعاصرين الذين كتبر عن التصوف بالمغرب دون تمحيص صدق القول ولا مصداقية القائل. فالتصوف أدخله الفاتحون الأولون الذين نشروا الإسلام بالمغرب. فلا يعقل أن يبلغ هؤلاء الدعاة الدين ناقصا،إذ الدين إسلام وإيمان وإحسان. فل نتصور في حقهم أن يخفوا التصوف وهو الإحسان، ولا يظهر هذا الجانب من الدين إلا في القرن الخامس الهجري؟ فالتصوف بمضمونه صاحب الإسلام مند بدايته. أما التصوف بمصطلحه المتخصص فقد نما شيئا فشيئا كما نما علم الفقه والحديث وغيرهما من علوم الدين.
3ـ الزاوية مؤسسة علمية ودينية واجتماعية تبلورت أنشطتها ووظائفها وتجدرت داخل الأمة الإسلامية بصفة عامة وداخل المجتمع المغربي بصفة خاصة، مما جعلها تساهم في مختلف اهتماماته المادية والمعنوية، بل والتعبير عنها بكل صدق وموضوعية. ولا شك أن من أهم تلك المهام وأنبلها ما قامت به الزاوية المغربية من دعم وترسيخ للثقافة الإسلامية الصحيحة الأصلية ونشرها، سواء تعلق الأمر بالعقيدة أو بالفقه وأصوله أو بالتربية الصوفية، ذالك أنها في كل تلك المهام ظلت تستمد أصولها ومنابعها من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
4ـ مشروع دراسة مؤسسة الزاوية هو جزء من صياغة الخطاب المهتم بتأثير هذه المؤسسة الصوفية في بلورة الشخصية المغربية، وكذا تأثير الشخصية المغربية في نشأة تلك المؤسسة، فتكون تلك العلاقة علاقة تأثير متبادل. وبالتالي لابد أن يكون لدراستها نفس عميق وبعد أوفى، حتى نعطي للموضوع أكبر مجال حيوي في قراءتنا وأبحاثنا وتأويلنا بغاية التعرف على النماذج الأخلاقية المنبثقة من عمق التجربة الصوفية.وهذا مشروع سيظل منفتحا على آفاق أبحاث أخرى للكشف عن إشعاعها وعطائها في مختلف القطاعات.
5ـ يعتبر النشاط العلمي من أهم الأدوار التي اضطلعت بها الزوايا في الحياة المغربية. فهذا النشاط من الأنشطة لكل الزوايا المغربية. فالباحث لا يكاد يجد زاوية مغربية لم تساهم في بث العلوم الشرعية و لو في أبسط الصور و هو تحفيظ القرآن الكريم، و تتطور هذه المساهمة أحيانا إلى درجة المشاركة في الحياة الثقافية بمختلف فنونها. وهكذا كان للزوايا الفضل في المحافظة على الوحدة الثقافية العلمية في المغرب عن طريق بث العلوم الشرعية والقيم الإسلامية بين سكان مدن المغرب وبواديها. أما على مستوى المساهمة في نقل الثقافة الإسلامية، فلم يقتصر الأمر على التدريس، بل خاض علماء الزوايا في مجال التأليف. فخلفت الزوايا تراثا هائلا لا نتصور أن تقوم للتراث المغربي قائمة بدونه. كما أنهم ساهموا في نفل الثقافة المشرقية إلى المغرب من خلال ما حملوه من مؤلفات أثناء رحلاتهم الصوفية، وما تعلموه من علوم بثوها في مؤلفاتهم أو درسوها لتلاميذهم ومريديهم.ولم تخل زاوية من الزوايا من مكتبة قل شأنها أو جل. وتشهد على ذالك الحقائق التي جليناها في هذا البحث.
6ـ لا يمكن أن ينكر الدور الذي قامت به الزوايا على المستوى الاجتماعي عبر تاريخ المغرب إلا معاند أو جاحد. فقد كانت تقوم بعدة مهام توزعت في عصرنا تحت مسميات متعددة. فالزوايا كانت مأوى لكل ذي حاجة، والزوايا كانت معاهد لإعادة التنشئة الاجتماعية والإنقاذ من الانحراف. والزوايا كانت مأوى لتربية اليتامى ومن فقدوا من يعتمدون عليه في إعالتهم، والزوايا كانت ملجأ الضعفاء والمحتاجين يجدون فيها ما يسد رمقهم وما يلبي حاجتهم، والزوايا شكلت أماكن لقاء فئات المجتمع بمختلف أصنافهم في إطار الأخوة الإسلامية.
7ـ الغاية التي تطمح إليها التربية الصوفية هي تحقيق الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليحرز المريد أمور الدين الإسلامي كلها التي تضمنها حديث جبريل المشهور. فمن لم يتحقق بمقامات الإحسان فقد تخلى عن إتمام دينه. ولهذا نص المحققون على وجوب سلوك الطريق الصوفي وجوبا عينيا واستدلوا على الوجوب نقلا وعقلا. وقد بين القرآن الكريم مدارج هذا السلوك وما يراه سالكه من آثار، فتكلم عن المراقبة والمحاسبة والتوبة والإنابة والذكر والصدق والمجاهدة ومخالفة الهوى والنفس وتكلم عن النفس الأمارة واللوامة والمطمئنة وعن الأولياء والصالحين والصديقين.
ولكن كثير من المسلمين أغفلوا هذا الجانب مع أنه في الحقيقة هو قوام التعرض لفضل الله تعالى. فالأعمال لها صورة شرعية هي إتقان حركاتها على الصورة التي هدتنا إليها السنة المشرفة. ولها حقيقة شرعية هي الإحسان وخلاصته كما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). أي مراقبة الله تعالى واستحضار عظمته وذكره في النفس عند كل عمل بل وفي كل حركة وسكون.
8 ـ تأكد لنا أن الزاوية هي أولا شيخ مأذون في التربية الصوفية فهو يعطي أورادا. وانتشار دعوته إلى الله وامتدادها بشريا وجغرافيا تابع لقوة طاقته الروحية. ذالك أن مرحلة التعرف للطريقة الصوفية تمتاز بوجود شيخ مرب على قيد الحياة تحيى أفعاله وأقواله معاني الكتاب المنزل والسنة المطهرة، ولا تحيى هذه المعاني إلا إذا تجسدت سلوكيا ومثلت للملاحظة بالجوارح قولا وفعلا وحالا.
9ـ تبين لنا إجماع كافة الصوفية في مختلف الأزمان على وجوب صحبة شيخ مأذون في التربية الروحية.ذالك لأن من لا شيخ له في كافة العلوم وخصوصا التصوف لا يعبأ به ولا يلتفت إليه.
10ـ تنطلق بعض القراءات لعلاقة الزوايا بالسلطة الحاكمة من انتقاء نماذج و أحداث معينة معتمدة على منهج الاستقراء الناقص للتاريخ، والذي يقود إلى أحكام خاطئة وقد ركزت هذه القراءات على بعض مظاهر الصراع الذي كان وليد ظروف تاريخية معينة. أما إذا انطلقنا من التصور السليم لمفهوم الزاوية (والذي بيناه في هذا البحث) واعتمدنا على الحقيقة الأساسية التالية: وهي أنه لا وجود لمفهوم الزاوية إلا بوجود شيخ حي مرب يتحقق بمعاني التصوف، هته المعاني التي تتنافى وهاجس البحث عن السلطة أو ما يسمى عند الصوفية بحب الرياسة؟ وهذا الهاجس هو الذي يؤدي غالبا إلى التنازع والقتال واستحلال المحارم والوقوع في الكبائر. ورغم أننا لا نجد تاريخيا سلوكا موحدا لمشايخ الصوفية بالنسبة للعلاقة مع السلطة مما يسمح برد ما ذهب إليه بعض الباحثين من إصدار أحكام عامة على شيوخ الزوايا، فإننا نجد هناك سلوكا عاما سلكته الزوايا التي تحقق فيها الشرط السالف الذكر، أي وجود شيخ مرب حي وذالك عند وجود سلطة شرعية حازت الإجماع على بيعتها. هذا السلوك الذي هو التزام مبدأ الطاعة لهذا النوع من أولي الأمر، ومبدأ لزوم جماعة المسلمين على مستوى بيعة الإمام، والسعي إلى البحث عن أسباب الاستقرار والأمن للأمة. كما أن السلطة الشرعية كثيرا ما كانت تعرف لهؤلاء الشيوخ فضلهم ودورهم في حياة المسلم، والذي لايستغني عنه من قل شأنه أو جل. كما كانت العلاقة بين الطرفين علاقة ربانية قبل كل شيء.
11ـ مارست الزوايا الجهاد بمعناه الإسلامي الحقيقي الذي هو محاربة المستعمرين المعتدين، والدفاع عن أرض الإسلام وحوزة الوطن، والسعي إلى حفظ كلمة المسلمين مجموعة غير متفرقة، وهذا الدور نجده لصيقا بالزاوية حيثما كانت. كما شهد بذالك كثير من المؤرخين إذ لاحظوا أن الاستعمار كان يعتبر الزوايا العدو اللدود ويداخله الرعب منها.
وقد أبرز هذا البحث الدور الجهادي للزوايا في مختلف مراحل التاريخ المغربي، وخصوصا في القرن العشرين.وبذالك تتهاوى الأطروحة المغرضة التي روج لها أعداء مؤسسة الزاوية من أن التصوف صنيع الاستعمار وعميله. ولا أدل على ذالك مما سقناه من مواقف بطولية لسيدي المختار بودشيش، الرجل المجاهد الذي قام وحارب دخول الاستعمار من المغرب الشرقي حتى أسر وأحرقت زاويته من طرف المستعمر الغاشم تحت قيادة الجنرال ليوطي، وإليكم أيها السادة صورتان تاريخيتان تشهدان على ذالك. وأخيرا تأبى التجربة الصوفية إلا أن تحضر في وعينا المعاصر رغم المحاولات التي بذلت في الماضي من أجل تشويهها وطمسها أو إقصائها. وذالك بتلفيق أنواع من التهم، واصطناع أصناف من المغالطات التي لا تخلو من شحنات إيديولوجية مختلفة المشارب والأهداف.
وإن نهضة الزاوية القادرية البودشيشية الأم وتفرعها عبر أطراف المعمور وانضواء الجموع الغفيرة من مختلف الشرائح الاجتماعية في سلكها، ليعتبر بحق إحياء للتصوف الحق، ونسفا وإبطالا لكل المزايدات والترهات. إذ غدا محك التجربة الروحية بإشراف شيخ الزاوية القادرية البودشيشية صخرة صلبة تتكسر عليها أمواج التضليل والتلفيق والتنميق والتزويق ومنارة تنبعث منها أشعة المعرفة والهداية والاستقامة للحيارى في بقاع العالم وطوق نجاة للغرقى في ظلمات الوهم والانحراف. تلكم أيها السادة بعض النتائج التي توصل إليها هذا البحث المتواضع، وهي دعوة إلى مزيد من الدراسة لمؤسسة الزاوية بمغربنا الحبيب ونشأتها ووظائفها والتطور الذي عرفته إلى وقتنا هذا.
وأجدد في الختام شكري الجزيل وثنائي العاطر إلى الأستاذ الدكتور عبد السلام الأدغيري على توجيهاته السديدة وإرشاداته المنهجية القيمة طيلة مدة إشرافه على هذا البحث. وهو الذي لم يبخل علي بنفيس وقته ولا بصادق نصحه ولا بحسن استقباله، كما أشكر باقي أعضاء اللجنة العلمية الذين تكرموا بقبول قراءة هذا البحث ومناقشته وتوجيههم لي ملاحظاتهم السديدة وانتقاداتهم الرشيدة.
كما لا يفوتني أن أوجه أعمق الشكر وأخلصه إلى فضيلة الدكتور أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية الساهر على تسيير هذه المؤسسة العلمية العظيمة بجد وإخلاص.
ختاما نتوجه بالدعاء لمؤسس هذه الدار المغفور له الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته، وللمحافظ على استمرار إشعاعها العلمي جلالة الملك محمد السادس راجين من الله الذي نحن كلنا إليه واعتمادنا في كل حال عليه أن يطيل عمره ويحفظه من كل سوء ومكروه.ويكلل مساعيه بالتوفيق لتحمل أعباء هذه المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه."وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ربيع ــ الثاني جمادى الأولى 1422 هـ / يوليوز ــ غشت 2001 م
سيدي جمال القادري بودشيش شيخ الطريقة البودشيشية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية