الشبهة :
قال صلاح الغرباوي لصديقه : " لو زرت شيخنا في التربية الصوفية ، واتخذته مثلنا وليا ومرشدا في حياتك وفي سيرك وطريقك لتغيرت أحوال قلبك ، وصح مرادك ، وتبدلت نفسك ..."
فقال صديقه : " أنا لا شان لي بأي شخص يوضح لي الطريق نحو الله ، يكفي أنني ملتزم بالكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة عقيدة وشريعة وسلوكا !" فمن هو شيخ التربية ؟ وما حكم صحبة العارفين ؟
تعريف شيخ التربية :
شيخ التربية هو : " الذي سلك طريق الحق ، وعرف المخاوف والمهالك ، فيرشد المريد ويشير إليه بما ينفعه وما يضره ".محمد علي التهانوي " كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم "
وقيل عن شيخ الطريقة : " هو الذي تظهر آثار تربيته عليك ، فتتغير أحوالك وتسمو أقوالك ، وتنمو معارفك ، ويصبح باطنك مملوءا بالحقيقة ، وظاهرك مقتد بالشريعة ".
حكم صحبة الشيخ المربي
ذهب أكثر أهل العلم إلى القول بوجوب صحبة شيخ التربية لاحتياج الناس إلى مداوات قلوبهم ، ومعالجة نفوسهم بالذكر ، والصحبة واتباع السنة ، منهم الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وحجة الإسلام الإمام الغزالي وابن الجوزية وابن خلدون وغيرهم .
قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله :" من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه ". إيقاظ الهمم لابن عجيبة ( ص 19 ).
الدليل من الكتاب :
قال تعالى : " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمنا من لدنا علما" قال له موسى : "هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا " (الكهف 65)
هذه الآية دليل على أن صحبة الصالحين ضرورة لمن أراد معرفة الحقائق الربانية ، فقد كان موسى عليه السلام نبيا فسمع بالعبد الصالح فهاجر إليه ليكون مريدا لديه ، ويعلمه علوما ليست بنقلية ولا بعقلية ، أساسها التسليم والمتابعة لمعرفة الحقائق الغيبية .
الدليل من السنة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة "صحيح مسلم.
هذا الحديث دليل على أن مجالسة الصالحين فيه منافع ، وأن مجالسة غير الصالحين فيه مساوئ.
نصوص وإفادات داعمة :
1 – يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين : فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن. كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتلقاه عنهم التابعون، وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان. فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونَحْوِه، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر’ .(ج11 ص510).
هذه الفقرة من فتاوى ابن تيمية رحمه الله ، تبين مدى أهمية تعلم الدين الظاهر ( الأحكام الشرعية ) وتعلم الدين الباطن ( أحوال القلوب ) من شيخ ملم بهذه الأحوال ، فقسم رحمه الله الدين إلى قسمين : دين ظاهر ( أي فقه الحلال والحرام والعبادات والمعاملات ) ودين ظاهر ( أي فقه القلوب والأرواح وشهود الغيب )
2 – قال الإمام الشعراني رحمه الله :" الشيخ في الطريق ضرورة لازمة بالغ ما بلغ علم المريد ، ولو حفظ آلاف الكتب والنقول ".
قلت : وكم من عالم محتاج إلى من يخلصه من أمراض النفس ( كالعجب والرياء وحب الدنيا ، وحب الظهور ) وهو لا يشعر حتى تتداركه رحمة الله .
3 – قال الإمام الغزالي في كتابه " الإحياء " :" من أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق :
الاول : أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس ، مطلع على خفايا الآفات ، ويحكمه في نفسه ، ويتبع إشارته في مجاهدته ، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه،ويعرفه طريق علاجه ..." إلى آخره. الإحياء ( ج 2 / ص 85 )
قلت : وكان الإمام الغزالي وحيد عصره في جميع العلوم ، وتنبه إلى انه محتاج إلى شيخ في التربية الروحية ، فهاجر إليه ، وتربى على يديه ، ناسيا شهرته ومكانته عند آلاف الأتباع وطلبة العلم ، فكتب كتابا سماه " المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال " ويقصد ب ( المنقذ ) الشيخ المربي والمداوي ، فعرفه حقيقة نفسه .
4 – قال ابن القيم رحمه الله ( تلميذا ابن تيمية ) : " ينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه ، فإذا وجده من الغافلين فليبتعد عنه ، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى وإتباع السنة ، وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه "كتاب " الوابل الصيب من الكلام الطيب " ( ص 53 )قلت : وكذلك شيخ التربية يغلب عليه ذكر الله تعالى ، ويأمر مريديه بذلك ن فمن سمع به فلا يتردد في الأخذ عنه .
وابن القيم هو الذي كتب كتابا مهما في التصوف سماه ( مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين ) وكذلك كتاب ( الروح ) الذي ينكره عليه بعض طلبة العلم .
5 – قال ابن الجوزي رحمه الله : من يكن شيخ نفسه في الطريق لم ينل رتبة من التحقيق لا يتم السوك في الطريق إلا بخفير ومرشد رفيق" كتاب التذكرة في الوعظ " ( ص 183 )
ومثله قال سيدي عبد الواحد بن عاشر في المرشد المعين :
يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك يذكــــــــــره الله إذا رآه ويوصل العبد إلى مولاه ومثله قال سيدي علي الخواص :لا تسلكن طريقا لست تعرفها بلا دليل فتهوى في مها وعها " المنن للشعراني " ( 1 / 51 )
6 – قال سيدي لسان الحق رحمه الله :" تعرفت على شاب متدين صالح أخلاقي ... تسلط عليه مشعوذ يدعي الصلاح فنزل عليه بأكوام من الأسماء ، وآلاف من سورة " قل هو الله أحد " .
قتزلزل شعوره ووجدانه ، واختلطت روحانيته ب " الرواحن " فتوسوس ومرض نفسيا وروحيا ، كان مصيره أن انتحر ! ولدرء هذه الأخطار ووضع المعالم في طريق الحق ، اخترنا أسلوب الطريقة الصوفية البودشيشية ، التي عشنا فيها أكثر من ثلاثين سنة نموذجا تربويا ..." كتاب " الحقيقة القلبية الصوفية " ( ص 41 ).
البيــــــان :
الإقتناع بالتربية الروحية على يد مختص في هذا الميدان أصبح اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى ، خصوصا في هذه الفترة الحرجة المؤذنة بالإنهيار المدوي للتدين والأخلاق والقيم .
إن شباب اليوم أصبح ممزقا نفسيا فإما أن يرتمي بين أحضان فكر التطرف والغلو والإرهاب ، وإما أن يسلك سبيل الغواية والتفسخ والمخدرات والإباحية الجنسية .
فالناس محتاجون إلى من ينقذهم من هذا الضلال – حتى الملتزمون منهم والسالكون لطريق الإيمان والمقامات الإحسان .
أما من يصرح أحدهم بأنه لا حاجة له بمتخصص في هذا العلم ، وانه يستطيع أن يجاهد نفسه فهذا شانه وتلك حياته ، أما أن يشوش على السباب وينفرهم من الذهاب إلى الطبيب ويتركهم يتخبطون ويتمزقون وينتحرون فهذه جريمة في حقهم ليس مثلها جريمة .
قال تعلى : " واصبر لنفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه " .
من إعداد الأستاذ: محمد النوة