تمهــــــــــــــيد :
قال عبد الصمد السلاوي لصديقه :
" فاتتك البارحة ليلة ربانية بزاوية سلا ختمت بالسماع والإنشاد ،
حبرها مسمعوا الطريقة تحبيرا فاق الوصف ، وقد هزت كياني قصيدة لسيدي البهلول رحمه
الله التي يقول فيها :
أنا مالي فياش واش عليا مني
نقلق من رزقي علاش والخالق يرزقني .
فقال صديقه :
" هذا كله هرطقة وزندقة ، ألا تعلم أن العلماء حرموا السماع والإنشاد
وقالوا فيه كلاما منكرا ، فماذا تقول في قولهم : " مررت بحي ليلى "
وغيرها من القصائد المنكرة، حسبنا الله
ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله "
فما هو السماع ؟ وما حكمه ؟
تعريــــــــــــف السمــــــــاع :
السماع لغة هو
: " كل ما إلتذته الأذن من صوت حسن ".
" لسان العرب "لابن منظور
والسماع اصطلاحا :
عرفه ذو النون المصري بقوله :" وارد حق ،
يزعج القلوب إلى الحق ، فمن أصغى إليه بحق تحقق ، ومن أصغى إليه بنفس تزندق "" اللمع في
التصوف " للسراج الطوسي ( ص 342 )
وقال أبو بكر
الكلاباذي :" هو استجمام
من تعب الوقت ، وتنفس لأرباب الأحوال ، واستحضار الأسرار لذوي الأشغال " " التعرف لمذهب أهل التصوف "
( ص 160 ).
وبعبارة : السماع
قصائد وأبيات ينشدها المنشدون بتحسين الصوت بدون آلات غالبا ، لكنها بمحسنات صوتية .
أما موضوعاته
فتدور حول حب الله والشوق إليه ، وحول حب نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ،
والتحذير من الدنيا والنفس ، والتذكير بالآخرة .
قا ل المحبون أهل
الله :
عيني لغير جمالكم
لا تنظر وسواكم في خاطري لا يخطر
وجميع فكري فيكم
دون الورى وعلى محبتكم أموت وأحشر
حكـــــــــــــــم السمـــــــــــــــاع :
أجمع العلماء على
عدم حرمة السماع ، وإنشاد الشعر ، وقالوا بإباحته ، واستحبابه ، ولم ينقل عن أحد
من الصحابة رضي الله عنهم إنكاره .
قال أبو مصعب :" سئل مالك
عن السماع فقال : لم يبلغني عنه شيء ، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرونه ، ولا
يقعدون عنه ، ولا ينكره إلا غبي جاهل أو فاسد غليظ الطبع " " ديوان
العاشقين " ( ص 5 )
وقال الإمام أحمد بن
حنبل رضي الله عنه :
" لا أعلم
أقواما أفضل منهم !قيل : إنهم إذا سمعوا السماع يقومون ويتواجدون قال : دعوهم يفرحوا مع الله
ساعة ". " غذاء
الألباب " محمد السفاريني الحنبلي (
ج 1/ص 120 )
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام :" أما سماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية ، المذكر للأمور الأخروية ،
فلا باس به ، بل يندب عند الفتور ، وسآمة القلب " " الزواجر" ( ج 2/ ص 273 )
قال المادحون في حق النبي صلى الله عليه وسلم :
وأحسن منك لم ترقط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
فلو كان السماع والإنشاد محرما ، فكيف ستكون حياة المسلم الإجتماعية وخصوصا عند الضغوط النفسية الا إذا كان هذا
الدين ضد الطبيعة البشرية ، والفطرة الإنسانية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
" بعثت بالحنفية السمحة " ويقول أيضا " ليعلم المشركون أن في ديننا
فسحة ".
الدليـــــــــــل من الكـتــــــــــاب :
قال تعالى :
" فأما الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، فهم في روضة يحبرون ". الروم 15
قوله تعالى :
يحبرون : أي يتلذذون بالسماع .
قال بن أبي كثير :
" الحبرة = السماع في الجنة " تفسير الطبري وغيره .
فهذه الآية
الكريمة إذا كانت تستحسن السماع لاهل الجنة ، فما الذي يجعله مستقبحا لأهل الدنيا
، وقد اقره النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه ولم ينكره .
قال ابو هريرة رضي
الله عنه :" قال رجل :
يا رسول الله : هل في الجنة سماع ؟ فاني أحب السماع ! قال صلى الله عليه وسلم : نعم .... الحديث
". " كنز العمال " ( ج 14/ ص 489 )
الدلــــــيـــــل من السنة :
قال سعيد بن المسيب
رضي الله عنه :" مر عمر بن
الخطاب في المسجد ، وحسان ينشد فلحظه عمر ( اي أنكر إنشاده)
فقال حسان : كنت
أنشد وفيه خير منك ، ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال : أنشدك بالله اسمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس ؟ قال نعم ". رواه البخاري ومسلم
هذا الحديث الشريف
يبين أن الإنشاد كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد الصحابة رضي
الله عنهم ، مما يدل على إباحته وجوازه .
إفــــــــــــــادات داعمــــــــــــــــــــة :
1 - قال أنس رضي الله عنه :" كان للنبي
صلى الله عليه وسلم حاد ( منشد ) يقال له انجشه – وكان حسن الصوت – فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : يا أنجش رويدك لا
تكسر القوارير". رواه البخاري
هذا الحديث الشريف
يبين جواز الانشاد على طريقة " الحداء " بضم الحاء وهو سماع ينشط الابل ويجعلها لا تمل السير فتسرع وتنشط ، ويروح ايضاعن النفس ويخفف عنها من وعتاء السفر .
ومما قاله
المنشدون وردده السائرون في الطريق إلى الله :
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشى بلظى هواك تسعرا
وإذا سألتك أن
أراك حقيقة فاسمح ، ولا تجعل
جوابي لن ترا
2 - سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إماما يصلي بالناس
ويتغنى بعد صلاته أتتمجن في عبادتك ؟ قال الإمام : لا يا أمير المؤمنين ، ولكنها
عظة أعظ بها نفسي ، فقال له عمر : قلها فانشد الإمام يقول :
ويح نفسي لا أراها
أبدا في جميل لا ولا في أدب
نفس لا كنت ولا
كان الهوى راقبي المولى وخافي
وارهبي
فقال عمر : "
على هذا فليغن من غنى "
" الإعتصام
" للشاطبي ( ج 1/ ص 220 )
وعلى هذا المنوال أيضا
قال البوصيري رحمه الله في قصيدة البردة :
والنفس كالطفل إن
تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه
ينفطم
فاصرف هواها وحاذر
أن توليه إن الهوى ما تولى يصم أو
يصم
3–ثبت في الصحيحين أن جماعة من الصحابة ( من بلاد
الحبشة ) انشدوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم سماعا خاصا بلغة بلادهم ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون ؟ قالوا : يقولون : محمد عبد صالح ، فنادى
صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها لتنظر الى سماعهم و " رقصهم "
داخل المسجد النبوي ". أنظر البخاري ومسلم
فهذا الحديث
الشريف يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل الحبشة على سماعهم و على حركاتهم
داخل المسجد ، ولم ينكر عليهم دلك السماع
ولا تلك الحركات، وهنا عدة ملاحظات :
1– جواز السماع بغير اللغة العربية كاللهجات المحلية (
ومنها الامازيغية ) وغيرها .
2– جواز إشراك المراة بحضورها لهذه المناسبات مع
مراعاة الضوابط الشرعية كعدم
الإختلاط والتستر عن الرجال.
3– جواز الإهتزاز والرقص بالرماح والسيوف عند الفرح
واللعب .
هذا الإهتزاز جاز
ادا وقع في حالة اللعب والترفيه، أما إذا
وقع في حال الجد والوجد بالسماع فهو أولى بالجواز بل يسلم لصاحبه ولاينكر عليه
لأنه لم يقع منه إلا غلبة وفوق الإرادة . ولا سبيل إلى إنكاره إلا من ذوي
الطباع الغليظة والنفوس المريضة ..
خلاصـــــــــــــــــــة :
يتضح من الأدلة السابقة جواز السماع والإنشاد ، وانه ليس منكرا كما يروج
لذلك أعداء الإسلام والمتشددون الذين لا يقرأون الآية الكريمة : " ويومئد
يفرح المؤمنون بنصر الله " ، فيكرهون الفسحة في ديننا ، والفرح في أعيادنا ،
والبسط في لقاءاتنا . فالسماع عند المسلمين نزهة مع اعتبار ، وفرحة مع استحضار ،
وترفيه مع تنبيه .
والسماع الصوفي لا يذوق معناه الا الذاكر
ولا ينال الحظ منه الا الشاكر وللعارفين فيه مقصد سائر وظاهر ، وهو التحلي
بالفضائل ، والتخلي عن الرذائل.
من إعداد : الأستاذ محمد النوة