قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] الصدق منه تنشأ جميع منازل السالكين ، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين . وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران . وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه .
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال .
والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة .
والصدق في الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص .
وقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى للصدق معان ستة فقال: ( اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، صدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق:
1ـ صدق اللسان يكون في الإخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه. وقيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب.
2ـ صدق في النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص ؛ وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى.
3ـ صدق في العزم على العمل لله تعالى.
4ـ صدق في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات.
5ـ صدق في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به.
6ـ الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد، والرضا والتوكل والحب) (إحياء علوم الدين ج4/ص334).
مفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللسان صدق القلب وصدق الأفعال والأحوال قال العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى في حواشي العقائد:
(الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السر والعلانية والظاهر والباطن بألاَّ تكذب أحوالُ العبد أعمالَه، ولا أعمالُه أحوالَه) (شرح رياض الصالحين لابن علان الصديقي. ج 1 ص 282)
فالصدق بمفهومهم هذا، صفة ينبعث منها العزم والتصميم والهمة على الترقي في مدارج الكمالات، والتخلي عن الصفات الناقصة المذمومة.
والصدق بهذا الاعتبار سيف الله تعالى في يد السالك يقطع به حبال العلائق والعوائق التي تعترض طريقه في سيره إلى الله تعالى، ولولاه لما استطاع أن ينطلق في مدارج الترقي ولكان معرَّضاً للوقوف والانقطاع.
ومن هنا تظهر أهمية الصدق وعظيم آثاره، ولذلك اعتبره الحق سبحانه أرفع الدرجات بعد النبوة والرسالة، قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: (الصدق عماد الأمر و به تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة). (الرسالة القشيرية ص97).
وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام أن الصدق يثمر طمأنينة القلب وراحة الفكر، بينما يسبب الكذب حالات من القلق والاضطراب والشك وعدم الاستقرار، فقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)(أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح).
وليس الصادقون بمرتبة واحدة، بل هناك الصادق، وأعلى منه الصِّديق. قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: (أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصِّدِّيق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله) (الرسالة القشيرية/ص97).
ورتبة الصدِّيقية في نفسها مراتب متفاوتة، بعضها أعلى من بعض، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية، وشهد الله تعالى بذلك فقال{والذي جاءَ بالصِّدقِ وصدَّقَ به} (الزمر/32)
ولا يعلو مقامَ الصديقية إلا مقامُ النبوة، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى، وهذا المقام تترادَفُ فيه الفتوحات وتعظم التجليات وتتم المشاهدات والكشوفات لكمال النفس وحسن صفائها.
أقوال في الصدق
- قال الجنيد رضي الله عنه: الصادق يتقلب فِي اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت عَلَى حالة واحدة أربعين سنة.
- وقال ايضا : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب .
- وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: لو أراد الصادق أَن يصف مَا فِي قلبه مَا نطق بِهِ لسانه.
- وقيل: الصدق القول بالحق فِي مواطن الهلكة.
- قَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد: الصدق الوفاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بالعمل.
- يَقُول سهل بْن عَبْد اللَّهِ : لا يشم رائحة الصدق عَبْد داهن نَفْسه أَوْ غيره.
- وَقَالَ الواسطي: الصدق صحة التوحيد مَعَ القصد.
- قَالَ ذو النون: الصدق سَيْف اللَّه مَا وضع عَلَى شَيْء إلا قطعه.
- قال عبد الواحد بن زيد : الصدق : الوفاء لله بالعمل .
- وقيل : موافقة السر النطق .
- وقيل : استواء السر والعلانية . يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته . كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه .
- وقيل : الصدق : القول بالحق في مواطن الهلكة .
- وقيل : كلمة الحق عند من تخافه وترجوه .
- وقال إبراهيم الخواص : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه ، أو فضل يعمل فيه .
- وقيل : ثلاث لا تخطئ الصادق : الحلاوة ، والملاحة ، والهيبة .
- وفي أثر إلهي من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي .
- وقال سهل بن عبد الله : أول خيانة الصديقين : حديثهم مع أنفسهم .
- وقال يوسف بن أسباط : لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله .
- قال بعضهم : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف ، قال الله تعالى : {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} .
- وقال الحارث المحاسبي : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه . ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله . فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين .
- قال بعضهم : من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت .
- قيل : وما الفرض الدائم ؟ قال : الصدق .
- وقيل : من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل .
- وقيل : عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك . فإنه ينفعك . ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك . فإنه يضرك .
ومن علامات الصدق : طمأنينة القلب إليه . ومن علامات الكذب : حصول الريبة ، كما في الترمذي - مرفوعا - من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصدق طمأنينة . والكذب ريبة . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الصدق يهدي إلى البر . وإن البر يهدي إلى الجنة . وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإن الكذب يهدي إلى الفجور . وإن الفجور يهدي إلى النار . وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها . وهي غايته . فلا ينال درجتها كاذب ألبتة . لا في قوله : ، ولا في عمله ، ولا في حاله.ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ،ونفي ما أثبته . أو إثبات ما نفاه عن نفسه . فليس في هؤلاء صديق أبدا .