قال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ..قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية.
وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، ضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق.
قال بعضهم: حقيقة الروح: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث: " من عرف نفسه فقد عرف ربّه " قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو: أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه:
الأول: أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر.
الثاني: لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا؛ علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى :{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }[الأنبياء: 22].
الثالث: لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته؛ علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته.
الرابع: لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
الخامس: لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء؛ علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة؛ لأنه منزه عن ذلك.
السادس: لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه؛ علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال.
السابع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية؛ علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية.
الثامن: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان.
التاسع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس.
العاشر: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصار، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار،{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }[الشورى: 11]. هـ.
ان الله سبحانه أبهم علم الروح فى ظاهر رسوم العلم وبينها لاهل المكاشفة من الانبياء والاولياء بانه اراهم الروح باوصافها فى المكاشفة وذلك سرّه عندهم وهم يكتمونه لقلة ادراك افهام الخلق ولا يعلمون ماهية وجودها وكيفية خلقها قط لان الله قال : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }.
قوله: { ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } إنما هو لتعريف الروح معناه إنها منه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء، وإن قوله: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ليس للاستبهام، كما ظن جماعة أن الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالماً به جل منصوب حبيب الله ونبيه صلى الله عليه وسلم من أن يكون جاهلاً بالروح مع أنه عالم بالله وقد منَّ الله عليه بقوله : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }[النساء: 113]
أحسب أن علم الروح ما لم يكن يعلمه، ألم يخبر الله أنه علَّمه ما لم يكن يعلم، فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظاراً الموحي حين سألته اليهود فقد كان لغموضه يرى في معنى الجواب دقة لا يفهمها اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم، وقال:{ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43] وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله.
وقيل: الروح لم تخرج من الكون لأنها لو خرجت من الكون لكان عليها الذُّل، فقيل: من أى شىء خرجت؟ قال: من بين جماله، وقدس جلاله بملاحظة الإشارة غشاها بجماله، وردّها بحسنه واشتملها بسلامهِ، وحياها بكلامه فهى متقة من ذُلّ الكون.
وحديث: " من عرف نفسه... " الخ، قال النووي: غير ثابت، وقال السمعاني: هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت: " بلى ".