بصيرة في الحب والمحبة:
ولا يُحدّ المحبّة بحدّ أَوضح منها، والحدود لا تزيدها إِلاَّ خفاءً وجفاءً فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أَظهر من المحبّة، وإِنَّما يتكلَّم النَّاس في أَسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأَحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.
وهذه المادّة تدور في اللُّغة على خمسة أَشياءَ:
أَحدها الصّفاء والبياض ومنه قيل حَبَب الأَسنان لبياضها ونضارتها.
الثانى: العُلُوّ والظُّهور ومنه حَبَب الماءِ وحَبَابه وهو ما يعلوه من النفاخات عن المطر، وحَبب الكأْس منه.
الثالث: اللُّزوم والثبات ومنه حَبَّ البعير وأَحبّ إِذا برك فلم يقُم.
الرَّابع: اللُّباب والخلوص. ومنه حَبّة القلب لِلبّه وداخله. ومنه الحَبّة لواحدة الحبوب إِذا هي أَصل الشيء ومادَّته وقوامه.
الخامس: الحفظ والإِمساك ومنه حُبّ الماءِ للوعاءِ الذي يُحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثُّبوت أَيضًا.
ولا ريب أَنَّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة، فإِنَّها صفاءُ المودّة وهَيَجان إِرادة القلب وعلوّها وظهورها منه لتعلُّقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوم لا تفارق، ولإِعطاءِ المحبّ محبوبه لبّه وأَشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عَزَماته وإِرادته وهُمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعانى الخمسةُ.
ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشَّئ غاية المناسبة: الحاء التي من أَقصى الحَلق والباء للشفة التي هي نهايته، فللحاءِ الابتداء وللباء الانتهاء، وهذا شَأْن المحبّة وتعلُّقها بالمحبوب، فإِنَّ ابتداءَها منه وانتهاءَها إِليه.
ويقال في فعله: حبَبت فلانًا بمعنى أَصبت حَبَّة قلبه، نحو شَغَفته وكَبَدته وفأَدته، وأَحببت فلانًا جعلت قلبى مُعَرَّضًا لأَن يُحِبّه. لكن وضع في التعارف محبوب موضعَ مُحَبّ واستعمل حبَبت أَيضًا في معنى أَحببت، ولم يقولوا مُحَبّ إِلاَّ قليلًا قال:
وأَعطَوْا الحُبّ حركة الضمّ التي هي أَشدّ الحركات وأَقواها، مطابَقة لشِدّة حركة مسمَّاه وقوّتها، وأَعطَوُا الحِبّ وهو المحبوب حركة الكسر لخفَّتها عن الضمَّة، وذلك لخفَّة ذكر المحبوب على قلوبهم وأَلسنتهم مع إِعطائه حكم نظائره كنِهْد وذِبْح للمنهود والمذبوح وحِمْل للمحمول، فتأَمّل هذا اللُّطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين اللَّفظ والمعنى يُطلعْك على قَدْر هذه اللغة الشريفة وإِنَّ لها لشأْنا ليس كسائر اللغات.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة من التنزيل الحميديّ منها {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} {وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال تعالى: {إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أَى آثروه عليه. وحقيقة الاستحباب أَن يتحرّى الإِنسانُ في الشيء أَن يحبّه. واقتضى تعديتُه بعَلى معنى الإِيثار، وفي الحديث الصّحيح «إِذا أَحبّ الله عبدًا دعا جَبْرئيلَ فقال: إِنى أُحِبُّ فلانًا فأَحِبَّه فيحبّه جبرئيل، ثم ينادى في السّماءِ فيقول: إِنَّ الله يحبّ فلانًا فأَحِبُّوه فيحبّه أَهْلُ السّماءِ، ثمّ يوضَع له القَبولُ في الأَرض» وفي البُغْض ذُكِر مثل ذلك. وفي الصّحيح أَيضًا: «ثلاث مَن كُنَّ فيه وَجَد بهنّ حلاوة الإِيمان: أَن يكون الله ورسولُه أَحبَّ إِليه مِمَّا سواهما، وأَن يحبّ المرءُ لا يحبّه إِلاَّ لله».
وفي صحيح البخاريّ: يقول الله تعالى: «مَن عادى لى وليًّا فقد آذَنْتُهُ بالحرب، وما تقرب إِليّ بالنَّوافل حتَّى أُحبّه فَإِذَا أَحببته كنت سمعَه إلى يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشى بها وإِن سأَلنى أَعطيته ولئن استعاذنى لأُعيذنَّه». وفي الصّحيحين من حديث أَمير السّريَّة الذي كان يقرأُ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} لأَصحابه في كلِّ صلاة وقال: لأَنَّها صفة الرّحمن وأَنا أُحبّ أَن أَقرأَ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخبروه أَنَّ الله يحبّه» وعن التِّرمذى عن أَبى الدَرداءِ يرفعه: «كان مِن دعاءِ داود عليه السّلام: اللهمّ إِنِّى أَسأَلك حبّك وحبّ من يحبّك، والعملَ الذي يبلِّغنى حبَّك اللَّهم اجعل حُبّك أَحبّ إِليّ من نفسى وأَهلى، ومن الماء البارد». وفيه أَيضًا من حديث عبد الله بن يزيد الخَطْمِيِّ أَنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول في دعائه: «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ مَن ينفعنى حبُّه عندك اللهمّ ما رزقتنى ممّا أُحبّ فاجعله قوّة لى فيما تحبّ، وما زَوَيت عنِّى ممّا أُحبّ فاجعله فراغًا لى فيما يحبّ».
والقرآن والسنَّة مملوءَان بذكر مَن يحبّ اللهُ سبحانه من عباده، وذكر ما يحبّه من أَعمالهم وأَقوالهم وأَخلاقهم. فلا يلتفت إِلى مَن أَوَّل محبّته تعالى لعباده بإِحسانه إِليهم وإِعطائهم الثواب، ومحبّةَ العباد له تعالى بمحبّته طاعته والازدياد من الأَعمال لينالوا به الثواب، فإِن هذا التأْويل يؤدّى إِلى إِنكار المحبّة، ومتى بطلت مسأَلة المحبّة بطلت جميع مقامات الإِيمان والإِحسان، وتعطَّلت منازلُ السَّيْر، فإِنَّها رُوح كلِّ مَقَام ومنزلةٍ وعمل، فإِذا خلا منها فهو ميّت، ونسبتها إِلى الأَعمال كنسبة الإِخلاص إِليها، بل هي حقيقة الإِخلاص، بل هي نفس الإِسلام، فإِنَّه الاستسلام بالذُّل والحُبّ والطَّاعة لله. فمن لا محبَّة له لا إِسلام له البتَّة.
ومراتب المحبّة عشرة: الأَوّل العلاقة والإِرادة والصبابة، والغرام وهو الحبّ اللاَّزم للقلب ملازمةَ الغريم لغريمه، ثمّ الوُدّ وهو صفو المحبّة وخالصها ولُبّها، ثمّ الشغَف، شُغِفَ بكذا فهو مشغوف أَى وَصَل الحُبّ شَغَاف قلبه وهو جِلدة رقيقة على القلب، ثمّ العشق وهو الحبّ المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه، وبه فسّر {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ثمّ التَتَيُّم وهو المحبّة والتذلُّل، تَيَّمه الحُبّ أَى عَبَّده وذَلَّله وتَيْم الله عَبْد الله، ثمَّ التعبّد وهو فوق التتيُّم فإِنَّ العبد الذي مَلَك المحبوبُ رِقَّه فلم يبق له شيء من نفسه البتَّة، بل كلُّه لمحبوبه ظاهرًا وباطنًا. ولمَّا كَمّل سيّد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها في أَشرف مقاماته بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وفي مقام الدّعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وفي مقام التحدّى{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وبذلك استحقّ التقدّم على الخلائق في الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة التي استحقّ التقدّم على الخلائق في الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة التي انفرد بها الخيلان إِبراهيم ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام؛ كما صحّ عنه «إِنَّ اللهَ اتَّخذنى خليلًا كما اتَّخَذَ إِبراهيم خليلًا».
وقال: «لو كنت متَّخِذًا من أَهل الأَرض خليلًا لاتَّخذتُ أَبا بكر خليلًا ولكن صاحبكم خليل الرّحمن» والخلَّة هي المحبّة التي تخلَّلْت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه.
والأَسبابُ الجالبة للمحبة عشرة:
الأَول: قراءَة القرآن بالتَّدبّر والتفهُّم لمعانيه وتفطُّن مراد الله منه.الثانى: التَّقَرّب إِلى الله تعالى بالنَّوافل بعد الفرائض؛ فإِنَّها توصِّل إِلى درجة الحبوبيَّة بعد المحبّة.
الثالث: دوام ذكره على كلِّ حال باللٍّسان والقلب والعلم والحال فنصيبه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: ايثار مَحَابِّه على محابّك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأَسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلُّبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرَف الله بأَسمائه وصفاته وأَفعاله أَحبّه لا محالة.
السادس مشاهدة بِرّه وإِحسانه ونِعمه الظَّاهرة والباطنة.
السابع: وهو من أَعجبها- انكسار القلب بكلِّيَّته بيْن يديه.
الثامن: الخَلْوة به وقت النُّزول الإِلهيّ لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتَّوبة.
التَّاسع: مجالسة المحبّين والصّادقين والتقاطُ أُطايب ثمرات كلامهم وأَلاَّ يتكلم إِلاَّ إِذا ترجّحت مصلحةُ الكلام وعَلِم أَنَّ فيه مزيدًا لحالِهِ.
العاشر: مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجَلَّ.
فمن هذه الأَسباب وصل المحبّون إِلى منازل المحبّة، ودخلوا على الحبيب وفي ذلك أَقول:
قال سهل بن عبد الله: علامة حُبِّ الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبيّ صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبيّ وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسِه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبُلْغَة.