المقدمة
ما حقيقة التصوف وهدفه وخلقه وإنسانيته ، وقيمته العلمّية والإجتماعية ؟
إن هذه الدراسة لا تعني تحليل ومناقشة التصوّف النظريّ ، المبنيّ على القواعد والنظريات ، أو الكتابة في تاريخه ، وتراجم رجاله ،أو أحوال الطرق الصوفيّة المعروفة ، أو الحركات الإسلامية ،أو ما سموه"بالسلفية الجديدة"ردًّا أو قبولاً...وإنما تعني في أساسها ومنهاجها وهدفها البحث عن الحقيقة القلبية الصوفيّة الصّافية ، وقيمتها العلميّة ،والخلقيّة والإجتماعية ، ومصدرها الأصليّ ، وإطارها الاسلامي ، ووسائلها الشرعيّة والعلميّة ،وما تفرض من الصدق والإخلاص ، في النية والعقيدة والعمل ، وهدفها في الإصلاحات الفرديّة والاجتماعيّة ،وعلاقة أصولها بأصول السلفيّة الحقيقيّة ،وتمحيص آراء الفقهاء في أحوال الصوفيّة ، ومنشأ الخلاف بين الفريقين...مع إغفال الفرضيات ، والعمل على حياد البحث ، وتركه يصنع نفسه بنفسه ، ويعلن نتائجه تحت أدلته ، ما لم ترد قضية عرَضا ، أو تقتضي المنهجية ضرْب المثل ، أو تفرض المقارنة وجودها ، أو رد ّما يجب رده...تجنّبا للجدال العقيم ، وإنفاق الجهد و الوقت في البحث عن الإيجابيات الكفيلة عمليّا بنفي السلبيات ، كما ينفي الذّوَبان بالنار عن الذهب الزَّغَل.
والمهمة الأولى للبحث تفرض وضع الإطار للتصوّف الحقيقيّ ، وتحديد حدوده ومعالمه ، وعندئد من خرج عنه : فردًا كان أو طريقة أو جماعة ، ينسب الى عمله ، ويوكل الى نفسه ، ولا يصح أن ينسب إلى أصحاب الحقيقة الصّوفية ، الذين يضعون كلّ عمل في معيار الكتاب و السنة .
ومن شأن الإطار الواضح الصحيح أن يفرز الأوراق بين الحق والباطل ، وبين الإيجابيات والسلبيات ، وبين الحقيقة الإلهيّة ، والشعودة البشرية...وعلّه أفضل ما نضعه بين يد القارئ يعتمده في التمييز بين الأصيل والدخيل ، وبين الحقيقة القلبيّة الناصعة ، وما يلصق بها من أعمال الدخلاء والمشعودين والمضلِّلين.
وحتى يكون الإطار الصوفيّ ذا مصداقية ، ويرتفع عن النقاش ، ويكون بمنئ عمّا تلوكه ألسنة المولعين بالتّشكيك ، نركز على ما اعتمده ائمة السلفية من آراء أئمة التصوف و شيوخه ، وهم أقوى حجة منّا و من غيرنا ، وأكثر إقناعًا من حجج الصوفية ، فيما يثبتون به شرعية طريقتهم وسنيتها وأصالتها ، اذ يعتبر ما احتجَّ ائمة السلفية من آراء أئمة التصوف تأكيدا للحق على الحق ، وإثبات الأصل بالأصل ، فيلتقي طَرفا الرحى على طحن الشّك ، وإثبات الحقيقة . وسنرى في صلب الموضوع أن الإمام الشاطبي في كتابه "الإعتصام" قد اعتمد كثيرا على أئمة التصوّف في إثبات السنة ودحض البدعة. فدلّ عمله على أن الصوفية الحقيقيين سُنيّون في المقام الأول.. والعمل بالكتاب والسنة هو القاسم المشترك بين السلفيّة الحقيقيّة والتصوف الحقيقيّ . وقد أصاب الحقيقتيْن من أدعياء هذه وتلك ما يستدعي اليقظة و الحذَر.. ومن أقوال الإمام الشاطبي في نهاية نقوله عن ائمة التصوّف الحقيقيّ وشيوخه :
"وكلامهم في هذا الباب يطول ، وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخا ، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال والسلوك عليه تيه ، واستعماله رمي في عماية ، وأنه مناف لطلب النجاة ، وصاحبه غير محفوظ ، وموكول إلى نفسه ، ومطرود عن نيل الحكمة ، وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة؛ مجمعون على تعظيم الشريعة ، مقيمون على متابعة السنة ، غير مخلين بشيء من آدابها" فيكونون ـ بعد الصحابة ـ من أولَى الذين عملوا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخير الْهَدْيِ هَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ).
وقد عزم الإمام الشاطبي كسلفيّ على أن يؤلّف في التصوّف الحقيقيّ ، الذي نحاول في هذه الدراسة الوصول الى توضيح حقيقته ، واخراجه من حومة الخوض والغموض والتباس الحق بالباطل... وقد قال الإمام ىالشاطبي :"وغرضي ان فسح الله في المدّة ، وأعانني بفضله ، ويسَّر الأسباب أن ألَخِّص في طريقة القوم أنمودجًا يستدلّ بها على صحتها ، وجَريانها على الطريقة المثلى".
** ** **
وإذا كان من مصداقية الإطار الصوفي ، الذي يتكفل ء تلقائيا ءبإبعاد المبتدعة واللاّشرعيين عن ساحة أصحاب الحقيقة الصوفية ، وتقتضي الأمانة العلمية ، ومنهجية البحث أن نمسك عن الإستنباط ، والإستنتاج الشخصيّ ، ونقدّم صورة واقعيّة عمليّة مسؤولة عن التزام الصوفية الحقيقيين بالعمل بالكتاب والسنة ، وكان من الأوضح بيانا ، والأكثر مسؤولية ، و الأقوى حجة ، و الأوقع في النفس أن ندعهم يضعون بأنفسهم الاطار الشرعي والسني للتزامهم ، فخير من ينقل هذا الإلتزام داخل إطاره هو الإمام الشاطبي ، الذي اعتمد على آرائهم في إثبات السنة ، ودحض البدعة ، فقال : قال أبو القاسم الجنيد : "الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذهبُنا هذا مقَيَّد بالكتاب والسنة" وهو اقتباس من قول النبي صلى الله عليه وسلم :( تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحجّةُ الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ : كتاب الله وسنتي).
وقال أبو يزيد البسطامي : "لو نظرتم إلى رجل أعطِى من الكرامات حتى يرتقي في الهواء ، فلا تغترُّوا به ، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداب الشريعة". وهو ما يعنيهم قولهم : "الاستقامةُ افضل من ألف كرامة" وقد جعل أبو يزيد الاستقامة على الشريعة مصدر الحقيقة ، وهو ما يعنيه قولهم : "الشريعة شجرة تُثمِر الحقائق" ثم قال في ما اعتمده الإمام الشاطبي في سبيل الوصول الى الحقيقة الإلهية :"رأيتُ ربّي في المنام ، فقلت : كيف الوصول إليك ؟ فقال : "اتْرُكْ َنفْسكَ وتَعالَ" والنفس الغافلة ، والعقل الجاحد أكبر حجاب يحول دون الوصول الى الحقيقة الغيبية.
وقال سهل التستري : "أصولنا سبعة أشياء : التمسك بكتاب الله ، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق " وقال أبو حفص الحداد : "مَن لم يَزن أفعاله و أقواله في كلّ وقت بالكتاب والسنة ، و لم يتَّهم خواطره ، فلا تعدّه في ديوان الرجال".
وقال أبو بكر الطمستاني : " فمن صحب منّا الكتاب والسنة ، وتغرّب عن نفسه و الخلق ، وهاجر الى الله بقلبه ، فهو الصادق المصيب" وقال أبو الحسين النووي : "من رأيته يدّعي مع الله حالة تخرجه عن حدّ العلم الشرعي فلا تقربنَّ منه" وقال شاه الكرماني : "من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشبهات ، وعمَّر باطنه بدوام المراقبة ، وظاهره باتباع السنة ، وعوَّد نفسه أكل الحلال ، لم تخطِئ له فراسة" والفراسة عند المفكرين تعني التثبُّت ، وعند أصحاب الحقيقة تعني المكاشفة. وقد سئل أبو علي الروزباري عمن سمع الملاهي ، ويقول :"هي لي حلال ، لأني وصلت الى درجة لا يُؤَثر فيَّ اختلاف الأحوال ، فقال : نعم ، قد وصل لكن الى سقر" وقال بندار بن الحسين : "صحبة أهل البدع تورِّث الإعراض عن الحق" وكلامهم في هذا الباب يطول ، كما قال الإمام الشاطبي ، وسيأتي في صلب الموضوع تمام ما نقل واحتجَّ به.
وقال الامام ابن تيمية في حقيقة التصّوف والصوفيّ :"التصوف عندهم له حقائق وأحوال معروفة ، قد تكلّموا في حدوده وسيرته وأخلاقه ، كقول بعضهم : الصوفيّ من صفا من الكدَر، وامتلأ من الفِكَر، واستوى عنده الذهب والحجَر ، والتصوف كتمان المعاني ، وترك الدعاوي...وهم يسيرون بالصوفي الى معنى الصدِّيق ، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصدِّيقون..."
وقد اعتبر المفكر ابن خلدون علم الحقيقة الصوفيّة من العلوم المتفرعة عن الأصول الشرعية ، فقال :"هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والإنقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور ، من لذة ومال وجاه، والإنفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة بالصوفية".
قال الإمام الشاطبي ، نقلا عن الشيخ القشيري في رسالته الصوفيّة : "ظهرت البدع ، وادَّعى كلّ فريق أن فيهم زهاداً وعباداً ، فانفرد خواصّ أهل السنة ، المراعون أنفسهم مع الله ، الحافظون قلوبهم من الغفلة عن الله بالصوفية" كان ذلك هو الإطار الحقيقي للتصوّف الحقيقي ، ومن خرج عنه فمبتدع ، وليس بصوفيّ.