ومن ثم ، فالسلوك الصوفيّ يرتاد التحلّي بالفضائل والأخلاق الكريمة ، والتخلّي عن النقائص والرذائل المشينة ، وينطلق أساسا من العبودية لله ومحبته ومحبة رسوله ، والخضوع لعظمته وجلاله ، ومراقبته في السرّ والعلن ، والصدق معه ومع عباده ، والعمل اجتماعيّا على المسالمة والتوادد والتراحم ، ونشر ألوية السّلم والوئام والإخاء ، ومحبة الخلق بحبّ خالقهم ، إلى درجة أنهم قالوا - في أبهى صورة من صور التسامح الإسلامي ، ونظرته الإنسانية العامة الشاملة - :لا تَكرَهْ يَهوديًّا ولا نصرانيًّا ، واكْرَهْ نفسَك التي بيْن جَنبيْك" على اعتبار أن المشاكل التي تقع للإنسان تصدر من نفسه لا من اليهودي و النصراني.
واذا كان الصوفّية الذين سمعنا منهم هذا القول مغاربة ، فالنموذج العمليّ قد تجلى فيما شاهدناه من العلاقة المتميّزة ، والإندماج شبه الكليّ بين اليهود المغاربة المسلمين بدون أدنى تنافر.. واليهود المغاربة اسرائليون متشبتون بدينهم وعاداتهم وتقاليدهم ، بخلاف الصهاينة ، المؤَلَّفين من شدّاد الآفاق ، كما وقع في فلسطين ، وقد اعتزوا بمغربيتهم ، وشاركوا المسلمين في التجارة والصناعة و الفلاحة وتربية المواشي ، وأنواع الحرف ، وفي المجالس والمناسبات ، وتبادل طعام الأعياد ، فيما يجوز أكله لهؤلاء وألائك.. وقد شاركوهم حتى في الإجتماع على لوحة لعبة "ضاما" وكان والدي - رحمه الله - يتبارى مع يهودي. وأكثر من ذلك أن صالحا صوفيّا ممن يوثق به ، أخبرني أن يهودية أرضعت بثديها رضيعا مسلما. وقد تعرّفت في الرباط على مسلم كانت له علاقة حسنة مع يهوديّ ، ولمّا مات وترك يتامى صار اليهودي يساعدهم . نفس الشيء تعّرفت عليه في فاس بين مسلم آخر ويهودي... وجوابا على سلوكهم الوطني ، واعتزازهم بوطنهم المغرب وملكه ، عين منهم جلالة الملك محمد الخامس وزيراً يمثِّلهم في أول حكومة بعد الاستقلال.. وحين أعلن عن موته ، رأيت بمدينة الجديدة اليهود واليهوديات قد اندفعوا نحو الشارع ، واختلطوا بالمسلمين تأثرا بفداحة المصاب ، وقد لفت نظري أن اليهوديات أكثر عويلا : مات ملكنا، مات ملكنا... وكان ذلك أوضح تعبير عملي على قول الصوفية - في نظرتهم الانسانية الكبيرة - : "لا تكره يهوديا ولا نصرانيا ، واكره نفسك التي بين جنبيك" والفضل لا يعود إلى الصوفية ، إلا من حيث التشبُّع ، قبل غيرهم بتلك الروح ، وإنما الفضل كل الفضل يعود إلى وُسع الإسلام وتسامحه وأخلاقه الإنسانية ، التي تجاوزت سلوك المسلمين الى سلوك اليهود والنصارى ، اقتداء بالرسول وخلفائه وأصحابه.
وقد جاء في "نهاية الأرَب في فنون الأدَب"حول العهد المدني النبوي مع اليهود " وإنَّ يَهودَ بَني عَوْفٍ أُمِّةٌ مَعَ الُمؤْمِنين لليَهودِ دينُهُم ، وللمُسلِمين دينُهُم" وروى أبو يوسف في "كتاب الخراج" أن الخليفة عمر مَّر بشيخ يهودي يسأل ، فأعطاه ، وأمر خازن بيت المال أن يجري عليه نفقة ، ويسقط عنه الجِزية ، وقال - يخاطبه - :"أكلنا شبيبتك في الصغَر ، وضيعناك في الكبَر" يعني الجزية ، وفي طريقه الى الشام مرّ براهب نصراني مَجدوم ، وأمر أن تعطى له نفقة تكفل حياته ، كما جاء في كتاب "الاسلام والمبادئ المستوردة" فكان ذلك أوضح تعبير عن تسامح الاسلام وإنسانيته وحسن معاملته لليهود والنصارى للمسلمين ، كل إناء بالذي فيه يرشح. وبذلك يتضح أن أصحاب الحقيقة الصوفية الذين انطلقنا من قولهم :"لا تكره يهوديا ولا نصرانيا ، واكره نفسك التي بين جنبيك" بحثا عن القيم الانسانية الغائبة عن العالم المتحضر اليوم ، ليسوا الا مرآة صافية ، انعكست فيها أخلاق الإسلام وإنسانيته المثالية. وبند "وإن يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين" الوارد في أول دستور وُضع في الإسلام ، واعترف بحقوق الأقليات قبل عصبة الأمم بقرون ، واستنبط منه المرحوم علال الفاسي خمسين بُندا ، يعني تَمام المساواة في الحقوق المدنية والدستورية ، كما أوضحناه في دراسة اجتماعية مستقلة ، والمقدمة لا تسمح هنا بالإحالة على المصادر.
إنها الحقيقة الاسلامية التي تجمع فروع الانسانية ، وتردّها إلى أصلها ، وهي القمة في ارتداء أصحاب الحقيقة الصوفية ، الذين تجلّت هذه الحقيقة في سلوكهم رداء الإنسانية المثالية.. ذلك أنهم لا ينظرون إلى أحوال الانسان ، إلاّ من حيث يكرهون من أفعاله - لا من خَلْقه - ما لا يليق بإنسانيته وعلاقته بخالقه ، وإنما ينظرون الى صنع الله في خلقه ، ويقرؤون حكمته المتجلّية في مُلكه ، و لايعارضون شيئا مما أراد ، فيمتثلون لإرادته في شؤون عباده موقنين أنه لا يقع في ملكه ما لا يريد ، واجتماعيا يرفضون كل أساليب الكراهية والتفرقة والعنصرية والخشونة والعنف والتطرف بكل أنواعه وأشكاله... كيف لا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من رواياة البخاري : ( يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا ، وفي رواية : إنما بُعثتُ ميَسراً ).
ومن ميزتهم أنهم ينتهجون نهج الوسط والاعتدال في نظام الحياة ، مع الأخد بزمام القناعة ، والوثوق بما في يد الله ، والإستغناء به عما سواه ، والتحرر من الإنزلاق نحو مهاوي الطمع ، الذي كثيرا ما يكون على حساب الحلال ، والعمل من أجل الدنيا على حساب الآخرة والمصلحة الخاصّة على حساب العامّة ، مع الزهد القلبي الإيجابي الذي يبني و لا يهدم ، وعدم الامتناع من التمتع بنعم الله التي خلقها لعباده الصالحين قبل غيرهم ، والعمل بمقتضى قوله تعالى :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) مع الإقتصار في اكتساب المال على ما هو حلال ، وإنه لَفي سلوك الصوفية الحقيقيين يتجَلى معنى الزهد الحقيقي في الإسلام ، وفيه يروي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بما فِي يَد اللَّهِ تعالى أَوْثَقَ بِمَا فِي يَدك ) وكثيرا ما يعبرون بالجمع بين الشريعة ، التي تمثل صلاح الظاهر ، وتعني كل الناس ، والحقيقة التي تمثل صلاح الباطن ، وتضع ميزان المفاضلة بينهم في المعاني القلبية والمقامات الباطنية ، وهو الإسلام المتكامل في الإنسان الصالح ، ويغطيه قول ابن عمر : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ".
ومن ثم ، فالسلوك الصوفي الحقيقي ، ما بين صلاح الظاهر والباطن ، والجمع ـ اجتماعياـ بين مصلحة المسلمين و الأجانب على السواء خير تعبير خُلُقي إنساني عن مقومات المجتمع المثالي القويم الصالح بكل أفراده ، وهو الحل الوحيد الناجع للمشاكل الدولية والاجتماعية المقلقة ، التي تجتاح الإنسانية ، والترياق المداوي للأمراض النفسية و الخلقية و الإجتماعية الفتاكة " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ".
وإن العالم اليوم على ظلمه وظلمته ، وتنافره وشدة مشاكله... لو فرضنا أنه تحول إلى مجتمع إسلامي ، بروح صوفيّة أخلاقيّة مثاليّة... لما بقيت فيه حروب ، و لافتن و لا مشاكل و لا إجرام ، و لا إرهاب الأفراد والدول... التي لا تصدر إلا عن الإنسان الغافل المنحرف عن إنسانيته ، ولتحولت - بيد الانسان الصالح - كل وسائل البطش والدمار، وما يصرف في المخدرات والفسق والفجور ، إلى وسائل السلم والهَناء والطمأنينة ، وتحولت خيرات العالم على كثرتها إلى مصدر الرفاهية والرخاء ، وتحقيق الأمن الغدائي والصحي ، والتي خلقها الله لتستعمل فيما يسعد الإنساية ، بدل أن تستعمل فيما يشقيها.
وبذلك - كما جاء في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (كونوا عباد الله إخوانا) - يكون كلّ عباد الله إخوانا : إخوانا في الإنسانية ، قبل أن يكونوا إخوانا في الدين والجنس ، اهتداء بمفهوم العموم في رسالة سيدنا محمد رسالة السماء إلى الأرض ، الذي بعثه الله رسول الإنسانية ورسول الحق والعدل والمساواة... وقد بين تعالى هدف رسالته من خلال توجيهه ، وخاطبه بقوله تعالى :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) بشيرا للصالحين ونذيرا للفاسدين ، خاصة فساد العقيدة و الايمان وقوله :( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) وقد ترجم انسانيته ، وانسانية رسالته في خطبة حجة الوداع ، حيث قال :( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ من آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى ) امتدادا لقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "وقوله ."يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ".
إنَّ مفهوم الأرحام معنى عام ، لا يفرّق بين رحيم ورحيم ، والنّداء في آيات وأ حاديث الموضوع - وهو موضوع اجتماعيّ انسانيّ - عبّرت بِياأَيُّها الناس ، الذي يشمل كلَّ الناس ، ولم تعبّر بِياأَيُّها الذين آمنوا الخاصّ بالمؤمنين... إنّه الإسلام وتسامحه الدّينيّ اللاّمحدود ، وأخلاقه الإنسانية النبيلة ، وإنسانيته الكبيرة المثالية ، التي لا تفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان ، مع الإعتراف بخصوصيّة الأديان.