آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(7).


ونتسائل : من يمثل - داخل العالم الإسلامي و خارجَه - هذه المعاني الإنسانيّة السامية ، اجتماعيا ودوليا ؟ وحول تشريع مبدأ المساواة الانسانية ، وحقوق الانسان : من حيث هو إنسان والحق من حيث هو الحق ، هل بدأ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان :"يولد الناس متساوين في الكرامة والحقوق" كما جاء في مادته الأولى ، أو بدأ بنزول الوحي بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ ) وببعثة سيدنا محمد المبعوث رحمة إلى الناس أجمعين ؟ وتجلى عمليا في قوله : (كلكم من آدمَ، وآدمُ من تراب،لا فَضلَ لِعَرَبيّ عَلى عجَميّ إلا بالتّقوى ) وقوله في احترام حقوق المعاهدين من اليهود و النصارى المعروفين بأهل ذمّة الله و رسوله : ( من ظَلم مُعاهداً أو انْتقَصه ، أو كَلفهُ فَوق طاقَته ، أو أخَد منه شيئا مِن غَير طيبٍ نَفسٍ مِنهُ ، فأنا حَجيجُه يَوم القيامة ) وتقدم قوله : (وان يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين ) واقتداء بسيرته وروح العموم في رسالته ، قال الخليفة عمر :" متى اسْتعبدتُم الناس ، وقد ولدهُتم امَّهاتهم أحرارا ؟ "وقال : الناس شَريفهم و وَضيعهم في ذات الله سواءٌ يعني كل النّاس ، وطبع أصحاب الحقيقة الصوفية إنسانيته الشاملة ، ونظرته العامة ، أمام العالم المتنافر ، بين الأديان والأجناس والألوان بقولهم : "لا تكرَه يهوديا ولا نصرانيا ، واكرَه نفسَك التي بين جَنبيْك"٠ 


ويبدو أن الذين يعقدون المؤتمرات الدولية من أجل التأمل في كيفية الإصلاح الإجتماعي العالمي ، كما وقع يوم 16- 2 - 1998م في الرباط ، ويركزون على روح العقيدة بين الأديان السماوية ، بدل روح الإنسانية ، التي انحدر منها الجميع ، قد اخطؤوا طريق الحل ، غير منتبهين الى أن أغلب سكّان المعمور لا ينتسبون لا للإسلام ، ولا للمسيحية ، ولا لليهودية ، وقد عامل الخليفة عمر بن الخطاب المجوس الذين لا دين لهم معاملة اليهود والنصارى ، عملا بحديث عبد الرحمان بن عوف ، من رواية البخاري والترمذي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (سُنّوا فيهِم سُنَّةَ أهْلَ الكتابِ ) ولذلك ركّزنا في هذه النقطة العالمية الحساسة على المفهوم العام للإنسانية ، بروح إسلامي وسلوك صوفيّ ، بدل الأديان والأجناس والألوان ، التي بعضها يفرق ولا يجمع.. والجمع بالمفهوم العالمي يتمثل في الأخوة الإنسانية التي تحتضن كل دين وجنس ولون ، و من لا دين له ، ومن لا يعترف به جنسيا... والملاحظ أن كل فئة من الطيور والحيوانات مجتمَّعة ومتألفة ، والفئة الانسانية متفرقة ومتناحرة ! 

وقد يكون الحق مع باحث ، قال : "لو فرضنا أن العالم برمته أراد أن يجتمع على دين واحد ، ونظام واحد فلن يجد دينا ونظاما يسعه ، إلا دين الإسلام ونظامه.. مثلا الصلاة في المسيحية لا تقع إلا في الكنيسة ، وفي الإسلام تقع في القطار والطائرة والباخرة والغواصة والسفينة الفضائية... حسب ما تسمح به الظروف... و أكبر تيسير أن المؤمن حيثما كان لا يفرض عليه أن يستقبل عين الكعبة خارج المسجد الحرام ، وإنما يكفيه أن يتجه جهة المسجد الحرام ، حيث تقع الكعبة بمكة ، عملا بقوله تعالى :" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( جُعِلَتْ لِي اَلْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ) وأمّا النظام فقد رأينا شموليته وإنسانيته العامة.. وبذلك يتضح أن التطور العلمي لا يؤثر في الإسلام دينا و نظاما ، وأنه دين يصلح لكل زمان ومكان.. إن التطور يؤثر في ما يعمله الإنسان ، حسب الظروف التي يراها ، وإذا تغيّرت رمَت بعَمله ، وأما الإسلام كشرع سماوي مقَدس ، فقد شرّعه عَلاّم الغيوب لكل زمان ومكان.

ثم إن تلك المُثُل الإنسانية السامية ليست بمُثل الصوفيّة ، الذين اقتبَسنا من سلوكهم روح البحث عن الإنسانية المبعثرة و المفككة الحلقات اليوم . وانما هي مثُل إسلامية ، طفحت بها نفوسهم ، وتجلّت في سلوكهم ، فكانوا ممّن يعيشون الحقيقة الإسلامية روحا وخلقا و انسانية... وأَجهل الناس بإنسانية الإسلام ورحمته وأخلاقه ، هم الذين يربطون بين لفظه و لفظ الإرهاب ، فيَندفعون عند ارتكاب جريمة قتل الأبرياء من النساء والصبيان والشيوخ ، كما يقَع في بعض البلدان ، ويقولون في غير الوعي بروح الإسلام ورحمته : قتلهم إسلاميون و إرهابيون، أما إرهابيون فنعَم ، وأما إسلاميون فلا، حاشا الإسلام في ذلك . و أكبر جريمة هي قتل الانسان البريئ ، و الله تعالى يقول :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) وهل في الأديان السماوية الحاملة لشرائع الله مكان للإجرام والمجرمين ؟ إن اصحاب الحقيقة الصوفية - المعروفين بالتشدّد في تطبيق الشرع - يجزمون بأن سر الله ومددَ نبيّه لا يَدخل إلى قلبِ شَخص خالفَ شرعَه ، وسنّة نَبيه ، وبالتالي لا يصل إلى معرفته ، ما لم يتُب ، ويقبل الله توبَته ، والله يقبل تَوبة عبده ، اذا تاب التوبة النصوح.

ومن هنا نعلم أن المنهاج الصوفي الحقيقي السلفي الأصيل منهاج إصلاحي ايجابي ديني أخلاقي إنساني إجتماعي متكامل ، وسلوك رباني حكيم... يمتاز بالإنسانية الكبيرة ، والنظرة الشاملة لكل نواحي الحياة العامة ، كما يمتاز ء دينا وعقيدة ء بالتوحيد الصافي الخالص ، القائم على التعامل مع كل عباده بالشكل الذي يُرضيه ، ولفظ العباد في حق الله ، يعني كل من تناسل من آدم ، آمن مَن آمن ، وكفر مَن كفر. والتمييز بين الكُفر والإيمان والعِقاب و الجزاء مكانه الآخرة ، وأما الحياة في الأرض ، فقد جعلها الله حقلا مشتركا بين الناس أجمعين ، :( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) واذا رأى قصير الفَهم أن عباد الله مَن آمن به ، ومَن كفر فعباد مَن ؟ وبكل بساطة إذا أراد العالم أن يحل مشاكل الإنسانية في الحقيقة الإجتماعية الإسلامية ، المتجلية في سلوك أصحاب الحقيقة الصوفية. 

و هذا السلوك المعنوي المتميز ، يستهدف - باطنيا ومعنويا - في القصد الصوفي على الخصوص الوصول ، لا إلى الجنة ، وإنما الوصول الى معرفة خالقها ، لأن الجنة مخلوقة ، والمخلوق - ولو كان رسولا أو نبيا أو وليا - لا يُقصد لذاته ، وإنما الخالق هو الذي يُقصد لذاته ، ومن قصد غَير وجهه ، أو أشرك معه غيره في عمله ، خاب قصده ، وبطل عمله . وذلك أعلى درجة الصدق و الإخلاص ، وفي التوحيد الخالص ، الذي من ميزة أصحاب الحقيقة الصوفية ، مع النظر الى فضله تعالى ، وقراءة حكمته ، والتسليم لإرادته في خصوصية بعض عباده ، والإنتفاع من بينهم بصحبة من تفضّل وتكرّم ، وألبسَه حُلّة هدايته ، وأمدّه برسالته أو معرفته ، ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، ثم الأولياء والعارفين من صالحي أمته ، عملا بما رواه الترمذي و أبو داوود أنه قال : (الرّجًل على دين خَليله فليَنظُر أحدُكم مَن يُخَالِل ). 

ومن ثم ، فنحن - على عكس ما فَعله البعض - لا نبحث في التصوف كعلم مستقل ، وإنما نبحث ء دينا وخُلقا وإنسانية ء عن الحقيقة الإسلامية ، انطلاقا من السلوك الصوفي المثالي لأصحاب الحقيقة القلبية الصوفية ، اذ الإسلام أصل ، وبمثابة جسم معنويّ ، والعلوم والسلوكات المتفرِّعة عنه بمثابة أعضاء معنويّة ، والفرع لا يعيش بدون أصل ، كما لا يعيش عضو بدون جسم ، وإذا انفصل الفرع عن الأصل ، أو العضو عن الجسم ، الذي يمده ، فقدَ العضو معنى الحياة ، و عدّ مَيتا ، وفقَد الفرع معنى المصداقية ، وعدَّ باطلا . فكانت النتيجة أن التصوف الحقيقيّ ، كفرع هو الإسلام ، والإسلام كأصل هو التصوف، وغير الحقيقيّ شعودة لا تُنسب للإسلام و لا ينسب إليها ، وقد رفضها الإمام الجنيد بقوله : "مذهبنا مقيّد بالكتاب والسنة" . 



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية