يقول محمد بن فضل البلخي رحمه الله :" العلوم ثلاثة علم من الله ، وعلم مع الله ، وعلم بالله".
فالعلم بالله : هو علم المعرفة الذي عرفه به جميع أوليائه . ولو لم يكن تعريفه وتعرفه لما عرفوه ، لأن كل أسباب الإكتساب المطلق منقطعة عن الحق تعالى . ولا يصير علم العبد علة لمعرفة الحق ، لأن علة معرفته تعالى وتقدس انما هي أيضا هدايته واعلامه.
والعلم من الله : هو علم الشريعة ، وهو أمر وتكليف منه لنا.
والعلم مع الله : هو علم مقامات طريق ، وبيان درجات الأولياء.
فالمعرفة إذن لا تصح بدون قبول الشريعة ، وممارسة الشريعة لا تستقيم بغير اظهار المقامات.
ويقول أبو علي الثقفي رحمه الله :" العلم حياة القلب من الجهل ، ونور العين من الظلمة".
أي أن العلم حياة القلب من موت الجهل ، ونور لعَين اليقين من ظلمة الكفر . وكل من يجهل علم المعرفة قلبه ميت بالجهل ، وكل من يجهل علم الشريعة قلبه مريض بالجهل ، فقلوب الكفار ميتة لأنها جاهلة بالله تعالى ، وقلوب أهل الغفلة عليلة لأنها جاهلة بأوامره .
ويقول أبو بكر الوراق الترمذي رحمه الله :" من اكتفى بالكلام من العلم دون الزهد تزندق ، ومن اكتفى بالفقه دون الورع تفسق".
والمراد بهذا القول أن تجريد التوحيد بلا معاملة ومجاهدة يكون جبرا ، والموحد يكون جبري القول قدري الفعل ، ليصح مسلكه بين الجبر والقدر .
وهذا ما قاله ذلك الشيخ رحمة الله عليه :"التوحيد دون الجبر وفوق الجبر" ، فكل من يكتفي من التوحيد بالعبارة دون المعاملة يصير زنديقا . أما الفقه فيشترط له الإحتياط والتقوى ، وكل من ينشغل بالرخص والتأويلات والتعلق بالشبهات ويحوم حول المجتهدين بلا مذهب ، للترخص ، سرعان ما يقع في الفسق ، وهذا كله يتأتى من الغفلة.
وحسنا قال شيخ المشايخ بن معاذ الرازي رحمه الله :" اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس : العلماء الغافلين ، والفقراء المداهنين ، والمتصوفة الجاهلين".
أما العلماء الغافلون ، فهم أولئك الذين جعلوا الدنيا قبلة قلوبهم ، واختاروا السهولة من الشرع ، واتخدوا عبادة السلاطين وصيروا بلاطهم مطافهم ، وجعلوا جاه الخلق محرابهم ، وانخدعوا بغرور مهاراتهم ، وشغلوا قلوبهم برقة كلامهم ، وأطلقوا لسان طعنهم في الأئمة والأساتذة ، وانشغلوا بقهر علماء الدين بكلام مزيد عليه ، وإذا وضعوا الكونين في كفة ميزانهم لا بظهران ، ومن ثم صيروا الحقد والحسد مذهبا. وجملة القول أن هذا كله لا يكون علما ، لأن العلم صفة تنتفي بها كل أنواع الجهل عن الموصوف .
وأما الفقراء المداهنون ، فهم أولئك الذين حين يكون فعل شخص موافقا لهواهم ، وإن يكن باطلا ، فإنهم يمدحونه به ، وحين يعمل عملا على خلاف هواهم ، وان يكن حقا ، فإنهم يذمونه به . وهم بمعاملاتهم يطمعون في الجاه من الخلق ، ويداهنونهم على الباطل.
وأما المتصوف الجاهل ، فهو الذي لم يصحب شيخا ، ولم يتلق الأدب عن كبير ، ولم يذق عرك الزمان له ، ويرتدي الأزرق بلا بصيرة ، ويلقي نفسه بين الصوفية ، ويسلك في في الخزي طريق الإنبساتط في صحبتهم ، وقد حمله حمقه عل أن يظن الجميع مثله ، ومن ثم يشكل عليه طريق الحق والباطل .
وكان المراد من الطوائف الثلاث التي ذكرها ذلك الموفق ، وأمر المريد بالإعراض عن صحبتهم هو أنهم كانوا كاذبين في دعواهم ، وناقصين في سلوكهم .
يقول أبو يزيد البسطامي رحمه الله :"عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا اشد علي من العلم ومتابعته" .
وفي الجملة : إن السير على النار أيسر على الطبع من السير على موافقة العلم ، وعبور الصراط ألف مرة يكون أسهل على قلب الجاهل من تعلم مسألة واحدة من العلم ، وضرب خيمة في الجحيم أحب الى الفاسق من العمل بمسألة من العلم ، فليكن لزاما عليك تعلم العلم ، وطلب الكمال فيه .
وكمال علم العبد يكون جهلا إلى جنب علم الله عز اسمه . ويجب أن تعلم كثيرا حتى تعلم أنك لا تعلم. ومعنى هذا أن العبد لايستطيع أن يعلم إلا علم العبودية ، والعبودية حجاب أعظم عن الألوهية .
ويقول واحد في هذا المعنى : "العجز عن درك الإدراك إدراك والوقف في في طرق الأخيار إشراك"
فمن لا يتعلم ويصر على الجهل يكون مشركا ، ومن يتعلم ويظهر له معنى في كمال علمه ، ويزول غرور علمه ويعلم أنه لا عاقبة لعلمه سوى العجز في طلب العلم - لأنه لا تأثير للتسميات في حق المعاني - فعجزه هذا عن إدراك العلم ، إدراك للعلم ، والله أعلم .
كشف المحجوب للهجويري