فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة ، وهو الفرقة الحاصلة ، حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة ، لا ينتظم شملهم بالإسلام ، وإن كانوا من أهله ، وحكم لهم بحكمه.
ألا ترى أن قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله تعالى : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا الآية ، وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق ؟
وفي الحديث :
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة والتفرق ناشئ عن الاختلاف في المذاهب والآراء ؛ إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب ، فهو الاختلاف كقوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا . للاختلاف سببان : كسبي ، وغير كسبي.
فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه ؟ وله سببان :
( أحدهما ) : لا كسب للعبادة فيه ، وهو الراجع إلى سابق القدر ، والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب ، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة ، فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع . فنقول والله الموفق للصواب : قال الله تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا ، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين لكان على ذلك قديرا لكن سبق العلم القديم أنه إنما خلقهم للاختلاف ، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية ، وأن قوله : ولذلك خلقهم معناه : وللاختلاف خلقهم . وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير . ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس ، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم ، وليس المراد هاهنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ، ولا في الألوان كالأحمر والأسود ، ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والناقص الخلق والأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، ولا في الخلق كالشجاع والجبان ، والجواد والبخيل ، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها .
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين ، كما قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الآية ، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا .
هذا هو المراد من الآيات التي ذكر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق ، أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :
أحدها : الاختلاف في أصل النحلةوهو قول جماعة من المفسرين ، منهم عطاء قال : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قال قال : اليهود والنصارى والمجوس ، والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية ، خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة .
وأصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه ، فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة . من قائل بالاثنين وبالخمسة ، وبالطبيعة أو الدهر ، أو بالكواكب ، إلى أن قالوا بالآدميين والشجر والحجارة وما ينحتون بأيديهم .
ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا . إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ، فعرفوا بالحق على ما ينبغي ، ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد ، وإضافة الصاحبة والأولاد ، فأقر بذلك من أقر به ، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : إلا من رحم ربك وأنكر من أنكر ، فصار إلى مقتضى قوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة ، وهو قوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وهو منقول عن جماعة من المفسرين .
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : ولذلك خلقهم خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا . وهو معنى ما نقل عن مالك و طاوس في جامعه ، وبقي الآخرون على وصف الاختلاف ، إذ خالفوا الحق الصريح ، ونبذوا الدين الصحيح .
وعن مالك أيضا قال : الذين رحمهم لم يختلفوا . وقول الله تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى قوله :فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ومعنى ذلك : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين فأخبر في الآية أنهم اختلفوا ولم يتفقوا ، فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن الذين آمنوا هداهم الله للحق من ذلك الاختلاف .
وفي الحديث الصحيح :
نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فاليهود غدا والنصارى بعد غد .
وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم . فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى قوله : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .
واختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة .
واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق ، واستقبلت اليهود بيت المقدس ، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للقبلة .
واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ولا يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمةمحمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
والثاني ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول ، فإن الله تعالى حكيم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون ، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات ، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف .
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم . يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يرجع إليه ، وهو قول الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية ، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك رده إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء ـ رضي الله عنهم ـ .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين أم لا ؟ والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه .
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف ، والمرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيما له ، ولم يستقم معنى الاستثناء .
والثاني : أنه قال فيها : ولا يزالون مختلفين فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرءون من ذلك ، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ـ رضي الله عنهم ـ ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : أنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة .
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة . وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم .وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون ، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة .
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافه ، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق ، وذلك من أعظم الضيق . فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من ( رحم ربك ) ؟ ! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها ، والحمد لله .
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية ، وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ، ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية ، وهو المؤدي إلى التفرق شيعا .
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم : أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة ، وأخبر :
أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ، ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار ، وذلك بعيد من تمام الرحمة .
ولقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا ، حتى ثبت من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ ـ فقال : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر ، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عني فكان ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة ، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : ولا يزالون مختلفين بدخولها تحت قوله : إلا من رحم ربك فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم . رضينا بقضاء الله وقدره ، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ، ويميتنا على ذلك بفضله .
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع ، وأن من رحم ربك أهل السنة ،ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا ، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل ، وهذا لا بد من بسطه .
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها .
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك ، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا ، بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ، ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ، وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها ، حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع ، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال :
لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم . فيؤتى الناس من قبله ، وقد صرف هذا المعنى تصريفا ، فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان . قال ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتي من ليس بعالم .
قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا ، فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال لا ! ولكن استفتي من لا علم عنده .
وفي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قبل الساعة سنون خداعا ، يصدق فيهن الكاذب ، ويكذب فيهن الصادق ، ويخون فيهن الأمين ، ويؤتمن الخائن ، وينطق فيهن الرويبضة قالوا : هو الرجل التافة الحقير ينطق في أمور العامة ، كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم .
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قد علمت متى يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا .
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا .
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ، فقال ابن المبارك : هم أهل البدع ، وهو موافق ، لأن أهل البدع أصاغر في العلم ، ولأجل ذلك صاروا أهل بدع .
وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده . قال : وقد كان عمر يستشير الصغار ، وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا . قال : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة . فأما من التزمهما فلا بد أن يسمو أمره ، ويعظم قدره .
ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل على غير علم كالسائر على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة ، فاطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني الخوارج ـ والله أعلم ، لأنهم قرؤوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث .
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم .
وروي عن مكحول أنه قال : تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا ، وتفقه السفلة فساد الدين .
وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغير وجهه ، فقلت : يا أبا عبد الله ! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك . قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس ، وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين .
وهذه الآثار أيضا إذا حملت على التأويل المتقدم اشتدت واستقامت ، لأن ظواهرها مشكلة ، ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين ، أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ، ومن ليس له أصالة في اللسان العربي ، فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه ، كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها .
والثاني من أسباب الخلاف اتباع الهوى
ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ، والتعويل عليها ، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهواءهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك ، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم ، أو طلبا للرياسة ، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ، ويتأول عليهم فيما أرادوا ، حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين .
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم ، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسميين ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات .
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصا على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعا ، كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور ، فإنه عزل عن قضاء البيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحدا .
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلتهم منزهه ،وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه . فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه . فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة . فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده .
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا . ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعارضة ، وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها . فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة . فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم . وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة فيها .
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء . وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يقتدي بهم أكثر الأمة ، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به ، فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا .
فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم . وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك ، فخذوا به مأخذكم ، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة . فسكتوا . فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي .
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة ، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا ، تزيد أضعافا على المجشر . ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة ، فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ، فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة .
قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر ، فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة ، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال .
فتأملوا كيف اتباع الهوى ، وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :
أحدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به ، لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ، ومن حكى عنهم ذلك ، فإما على غير تثبيت ، وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه ، بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية .
والثاني : أنه إن سلمنا صحته فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالصحبة والإمارة أو قضاء الحاجة ، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق ، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع ، عافانا الله من ذلك بفضله .
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى ، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث ، وسيأتي بيان ذلك بعد ، إن شاء الله .
وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى ، وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم . قال الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ ـ أي ميل عن الحق ـ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد تقدم معنى الآية ، فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه ، عكس ما عليه الحق في نفسه .
وقد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج عنده وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ ابن عباس الآية . خرجه ابن وهب .
وقد دل على ذمة القرآن في قوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الآية ، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم . حكى ابن وهبعن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، وقال : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إلى غير ذلك من الآيات . وحكى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول . يعني ما كان عليه السلف الصالح .
وخرج عن الثوري أن رجلا أتى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، فقال : أنا على هواك . فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة : أي شيء أنا على هواك ؟ .
والثالث من أسباب الخلاف التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق
وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ، وأشباه ذلك ، وهو التقليد المذموم ، فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية . ثم قال : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون وقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء ، فقالوا : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله :
اتخذ الناس رؤساء جهالا إلى آخره ، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان .
وفيما يروى عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بد فاعلين ، فبالأموات لا بالأحياء . فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ، حتى يثبت فيه ويسأل عن حكمه ، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة . ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم . ولكن سله يصدقك . وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل مثله . ولعله فعله ساهيا . وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة . وما أشبه ذلك . لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه .
وقول علي ـ رضي الله عنه ـ : فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع .
يعني الصحابة ، ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه . وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا . كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه يفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدي به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد . ويجعله حجة في دين الله ، فهذا هو الضلال بعينه . وما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى .
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة ، إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء ، فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدي به . كائنا ما كان ذلك العمل . موافقا للشرع أو مخالفا . ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء أهل الظاهر . فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب . كالذين قلدوا آباءهم سواء . وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى .
وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون ويرون أن لا دليل عليها . ولا برهان يقود إلى القول بها .
هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم . ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم :
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا إلى آخره .
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن ، و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال ، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإن كان لهم فيه رأي اختلفوا ، وقال سعيد : فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال سعيد فيكون لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره عمر وانتهره عليفانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه .
وما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها . فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا .
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ويقرنون معها : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت ، لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه .
ألا ترى أن قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله تعالى : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا الآية ، وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق ؟
وفي الحديث :
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة والتفرق ناشئ عن الاختلاف في المذاهب والآراء ؛ إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب ، فهو الاختلاف كقوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا . للاختلاف سببان : كسبي ، وغير كسبي.
فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه ؟ وله سببان :
( أحدهما ) : لا كسب للعبادة فيه ، وهو الراجع إلى سابق القدر ، والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب ، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة ، فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع . فنقول والله الموفق للصواب : قال الله تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا ، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين لكان على ذلك قديرا لكن سبق العلم القديم أنه إنما خلقهم للاختلاف ، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية ، وأن قوله : ولذلك خلقهم معناه : وللاختلاف خلقهم . وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير . ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس ، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم ، وليس المراد هاهنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ، ولا في الألوان كالأحمر والأسود ، ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والناقص الخلق والأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، ولا في الخلق كالشجاع والجبان ، والجواد والبخيل ، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها .
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين ، كما قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الآية ، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا .
هذا هو المراد من الآيات التي ذكر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق ، أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :
أحدها : الاختلاف في أصل النحلةوهو قول جماعة من المفسرين ، منهم عطاء قال : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قال قال : اليهود والنصارى والمجوس ، والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية ، خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة .
وأصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه ، فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة . من قائل بالاثنين وبالخمسة ، وبالطبيعة أو الدهر ، أو بالكواكب ، إلى أن قالوا بالآدميين والشجر والحجارة وما ينحتون بأيديهم .
ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا . إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ، فعرفوا بالحق على ما ينبغي ، ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد ، وإضافة الصاحبة والأولاد ، فأقر بذلك من أقر به ، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : إلا من رحم ربك وأنكر من أنكر ، فصار إلى مقتضى قوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة ، وهو قوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وهو منقول عن جماعة من المفسرين .
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : ولذلك خلقهم خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا . وهو معنى ما نقل عن مالك و طاوس في جامعه ، وبقي الآخرون على وصف الاختلاف ، إذ خالفوا الحق الصريح ، ونبذوا الدين الصحيح .
وعن مالك أيضا قال : الذين رحمهم لم يختلفوا . وقول الله تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى قوله :فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ومعنى ذلك : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين فأخبر في الآية أنهم اختلفوا ولم يتفقوا ، فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن الذين آمنوا هداهم الله للحق من ذلك الاختلاف .
وفي الحديث الصحيح :
نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فاليهود غدا والنصارى بعد غد .
وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم . فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى قوله : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .
واختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة .
واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق ، واستقبلت اليهود بيت المقدس ، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للقبلة .
واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ولا يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمةمحمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .
والثاني ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول ، فإن الله تعالى حكيم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون ، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات ، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف .
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم . يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يرجع إليه ، وهو قول الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية ، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك رده إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء ـ رضي الله عنهم ـ .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين أم لا ؟ والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه .
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف ، والمرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيما له ، ولم يستقم معنى الاستثناء .
والثاني : أنه قال فيها : ولا يزالون مختلفين فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرءون من ذلك ، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ـ رضي الله عنهم ـ ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : أنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة .
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة . وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم .وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون ، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة .
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافه ، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق ، وذلك من أعظم الضيق . فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من ( رحم ربك ) ؟ ! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها ، والحمد لله .
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية ، وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ، ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية ، وهو المؤدي إلى التفرق شيعا .
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم : أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة ، وأخبر :
أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ، ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار ، وذلك بعيد من تمام الرحمة .
ولقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا ، حتى ثبت من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ ـ فقال : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر ، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عني فكان ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة ، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : ولا يزالون مختلفين بدخولها تحت قوله : إلا من رحم ربك فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم . رضينا بقضاء الله وقدره ، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ، ويميتنا على ذلك بفضله .
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع ، وأن من رحم ربك أهل السنة ،ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا ، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل ، وهذا لا بد من بسطه .
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها .
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك ، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا ، بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ، ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ، وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها ، حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع ، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال :
لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم . فيؤتى الناس من قبله ، وقد صرف هذا المعنى تصريفا ، فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان . قال ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتي من ليس بعالم .
قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا ، فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال لا ! ولكن استفتي من لا علم عنده .
وفي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قبل الساعة سنون خداعا ، يصدق فيهن الكاذب ، ويكذب فيهن الصادق ، ويخون فيهن الأمين ، ويؤتمن الخائن ، وينطق فيهن الرويبضة قالوا : هو الرجل التافة الحقير ينطق في أمور العامة ، كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم .
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قد علمت متى يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا .
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا .
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ، فقال ابن المبارك : هم أهل البدع ، وهو موافق ، لأن أهل البدع أصاغر في العلم ، ولأجل ذلك صاروا أهل بدع .
وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده . قال : وقد كان عمر يستشير الصغار ، وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا . قال : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة . فأما من التزمهما فلا بد أن يسمو أمره ، ويعظم قدره .
ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل على غير علم كالسائر على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة ، فاطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني الخوارج ـ والله أعلم ، لأنهم قرؤوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث .
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم .
وروي عن مكحول أنه قال : تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا ، وتفقه السفلة فساد الدين .
وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغير وجهه ، فقلت : يا أبا عبد الله ! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك . قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس ، وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين .
وهذه الآثار أيضا إذا حملت على التأويل المتقدم اشتدت واستقامت ، لأن ظواهرها مشكلة ، ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين ، أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ، ومن ليس له أصالة في اللسان العربي ، فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه ، كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها .
والثاني من أسباب الخلاف اتباع الهوى
ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ، والتعويل عليها ، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهواءهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك ، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم ، أو طلبا للرياسة ، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ، ويتأول عليهم فيما أرادوا ، حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين .
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم ، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسميين ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات .
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصا على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعا ، كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور ، فإنه عزل عن قضاء البيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحدا .
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلتهم منزهه ،وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه . فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه . فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة . فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده .
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا . ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعارضة ، وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها . فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة . فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم . وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة فيها .
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء . وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يقتدي بهم أكثر الأمة ، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به ، فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا .
فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم . وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك ، فخذوا به مأخذكم ، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة . فسكتوا . فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي .
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة ، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا ، تزيد أضعافا على المجشر . ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة ، فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ، فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة .
قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر ، فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة ، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال .
فتأملوا كيف اتباع الهوى ، وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :
أحدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به ، لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ، ومن حكى عنهم ذلك ، فإما على غير تثبيت ، وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه ، بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية .
والثاني : أنه إن سلمنا صحته فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالصحبة والإمارة أو قضاء الحاجة ، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق ، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع ، عافانا الله من ذلك بفضله .
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى ، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث ، وسيأتي بيان ذلك بعد ، إن شاء الله .
وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى ، وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم . قال الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ ـ أي ميل عن الحق ـ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد تقدم معنى الآية ، فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه ، عكس ما عليه الحق في نفسه .
وقد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج عنده وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ ابن عباس الآية . خرجه ابن وهب .
وقد دل على ذمة القرآن في قوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الآية ، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم . حكى ابن وهبعن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، وقال : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إلى غير ذلك من الآيات . وحكى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول . يعني ما كان عليه السلف الصالح .
وخرج عن الثوري أن رجلا أتى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، فقال : أنا على هواك . فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة : أي شيء أنا على هواك ؟ .
والثالث من أسباب الخلاف التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق
وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ، وأشباه ذلك ، وهو التقليد المذموم ، فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية . ثم قال : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون وقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء ، فقالوا : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله :
اتخذ الناس رؤساء جهالا إلى آخره ، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان .
وفيما يروى عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بد فاعلين ، فبالأموات لا بالأحياء . فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ، حتى يثبت فيه ويسأل عن حكمه ، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة . ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم . ولكن سله يصدقك . وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل مثله . ولعله فعله ساهيا . وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة . وما أشبه ذلك . لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه .
وقول علي ـ رضي الله عنه ـ : فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع .
يعني الصحابة ، ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه . وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا . كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه يفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدي به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد . ويجعله حجة في دين الله ، فهذا هو الضلال بعينه . وما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى .
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة ، إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء ، فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدي به . كائنا ما كان ذلك العمل . موافقا للشرع أو مخالفا . ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء أهل الظاهر . فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب . كالذين قلدوا آباءهم سواء . وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى .
وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون ويرون أن لا دليل عليها . ولا برهان يقود إلى القول بها .
هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم . ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم :
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا إلى آخره .
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن ، و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال ، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإن كان لهم فيه رأي اختلفوا ، وقال سعيد : فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال سعيد فيكون لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره عمر وانتهره عليفانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه .
وما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها . فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا .
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ويقرنون معها : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت ، لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه .