اعلم أن الورد اسم لوقت من ليل أو نهار يرد على العبد مكرراً فيقطعه في قربة إلى اللّه ويورد فيه محبوباً يرد عليه في الآخرة؛ والقربة اسم لأحد معنيين: أمر فرض عليه أو فضل ندب إليه، فإذا فعل ذلك في وقت من ليل أو نهار ودوام عليه فهو ورد قدمه يرد عليه غداً إذا قدم ، قال المعتمر بن سليمان:" ذهبت ألقن أبي عند الموت فأومأ إليّ بيده دعني فإني في وردي"...وأما العارفون فإنهم لم يوقتوا الأوراد ولم يقسموا الأوقات بل جعلوا الورد واحداً لمولاهم وجعلوا حاجاتهم من الدنيا ضرورتهم، وصيروا الوقت متساوياً لسيدهم وتصريفهم لمصالحهم يدخل عليهم فوضعوا رقابهم في رقّ العبودية وصفوا أقدامهم في مصاف الخدمة فكانوا في كل وقت بحكم مايستعملون وبوصف ما به يطالبون ذلك وردهم وتلك علامتهم عن حسن اختيار اللّه عزّ وجلّ لهم وجميل توليه إياهم لا يكلهم إلى نفوسهم ولا يوليهم بعضهم وهو يتولّى الصالحين مشاهدتهم ذكرهم وقرب الحبيب حبهم ليس يشهدون فضيلة في غير محبوبهم ولا يرجون قربة بغير معروفهم؛ به يتقربون إليه، وإليه، به يسبّحون له، وعليه يتوكلون له، ومنه يخافون عنه، وإياه يحبون منه لو أسقطوا الأعمال كلها غير ماتعلق بالتوحيد ثبوته ما نقص من توحيدهم ذرة ولو تركوا أوراد المريدين كلهم ما أثر في قلوبهم بقسوة ولا فترة لأنهم لا يزيدون بالأعمال فينقصون بها ولا يتفقدون قلوبهم وأحوالهم بالأوراد فيعرفون النقصان والمزيد منها ولا تجتمع قلوبهم بسبب ولا تقوى نفوسهم بطلب فتتشتت لفقد سبب ويضعف يقينهم لطلب هذه المعاني هي أحوال المريدين وجملة تغييرهم في شيئين: ضيقهم بالخالق فهربوا منه، واتساعهم بالخلق فاستراحوا إليه، ولو دام قربهم منه لدامت راحتهم به ولو وقفت شهادتهم عليه لما نظروا إلى سواه، وأما العارفون فقد فرغ لهم من قلوبهم واجتمعت المتفرقات بمجامعها لهم وأقامهم القائم لهم بشهادتهم له فلهم بكل شيء مزيد ومن كل شيء توحيد، كل خاطر بهم يردهم إليه وكل منظور إليه يدلهم عليه وكل نظرة وحركة طريق لهم إليه، فتوحيدهم في مزيد ويقينهم في تجديد بغير تغيير ولا تصريد ولا إيقاف ولا تحديد، ولربما طلب أحدهم التسبب بالأسباب فيجمعه بها رب الأرباب لأنه مراد بالاجتماع وإنما استروح بالشتات لاستجمام ماهو في قلبه آت ثقة منه بحبيبه وتمكناً عند محبوبه إذ قد علم أنه طالب فطرح نفسه ليحمله فحمله بما تولاه ولم يكله إلى نفسه وهواه، فهذه مقامات لأهلها لا يعرفها سواهم ولا تصلح إلاّ لهم ولا تليق إلاّ بهم ولا يقاس عليها ولا يدعى مكانها ولا تنتظر فتترك لها الأوراد ولا تتوقع فيقصر لأجلها في الاجتهاد والمرادون بها محمولون بها مواجهون بعلمها مسلوك بهم طريقها مزوّدون زادها وهي محبوسة عليهم مقصورة لهم فهم لها سابقون، فأولياء اللّه عابدوه وقد عكفوا بقلوبهم لمن عبدوه ونظروا إلى معبودهم الذي عكفوا عليه ففهموا عنه فصل الخطاب بما آتاهم من شهادة حكمه حكم الكتاب إذ يقول: (وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه:97 بعد قوله للغافلين فصيرهم معرضاً نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين مع قوله: (أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) ص:6، إن هذا الشيء يراد إلى قوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّك بِأعْيُنِنا ) الطور: 84، فعلموا أن الإخلاص الذي أمروا به هو العبادة ولا عبادة إلا بمجانبة الهوى وبعدها الإنابة إلى المولى، أما سمعت قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أنْ يَعْبدُوهَا وَأنَابُوا إلَى اللّهِ لَهُمُ البُشْرَى) الزمر: 17 وأيقنوا أن الصلاة عماد الدين ولا صلاة إلا للمتقين ولا تقوى إلا بإنابة، كما قال تعالى: (مُنيبينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) الروم:31 ثم قال:(وَأقِيمُوا الصِّلاةَ وَلاَ تَكَونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ) الروم31 فهذه عبادة العارفين على سنة النبيين فإنابتهم مشاهدتهم لمذكورهم كقوله في وصف ضدهم: (كَانَتْ أعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءِ عَنْ ذِكْرَى) الكهف:101 فهم عن كشف من ذكره إذ كانوا بضد وصفهم وحقيقة ذكرهم نسيانهم لسوى مذكورهم بمعنى قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف:24 فأخرجهم الذكر له إلى الفرار إليه كما فهموا عنه إذ يقول: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام: 152 ففروا إلى اللّه فلما هربوا أواهم بقربه ووهب لهم هداية إلى حبه ونشر لهم من رحمته وطواهم في قبضبته فلم يرهم إلا هم ولم يعرفهم سواهم، وقد قال تعالى: (وَإذِ اعْتَزَلْتُموهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِه) الكهف: 16 وقال تعالى: (إنّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهدِينِ) الصافات: 99.
الكتاب :قوت القلوب في معاملة المحبوب
المؤلف : أبو طالب المكي