ففرقة منهم اغتروا بالزي والهيئة والمنطق ، فيجلسون على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر ، وفي تنفس الصعداء ، وفي خفض الصوت في الحديث ، ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية ، وكل ذلك من أوائل منازل التصوف مع أنهم لم يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها .
وفرقة ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب ، ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ ; لأنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ، ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين ، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام ، حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار ، ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء ويقول : " إنهم عن الله محجوبون " ، ويدعي لنفسه الوصول إلى الحق وأنه من المقربين ، وهو عند الله من المنافقين ، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين ، لم يحكم قط علما ، ولم يهذب خلقا ، ولم يرتب عملا ، ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه .
وفرقة وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام ، فبعضهم يقول : " إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي " ؟ وبعضهم يقول : " الأعمال بالجوارح لا وزن لها وإنما النظر إلى القلوب ، وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله ، وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربوبية ، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب " ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية ، وأن الشهوات لا تصدهم عن طرق الله لقوتهم فيها . وكل هذا من وساوس يخدعهم الشيطان بها ، والإباحية من الكفار المارقين . نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين .
وفرقة ادعوا حسن الخلق والتواضع والسماحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوما وتكلفوا بخدمتهم واتخذوا ذلك شبكة للرياسة وجمع المال ، فيجمعون من الحرام والشبهات وينفقون عليهم لتكثر أتباعهم وينتشر بالخدمة اسمهم ، وما باعثهم إلا الرياء والسمعة .
وثمة فرق أخر لا يحصى غرورها ، والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون الاستيعاب ، فإن ذلك يطول .
موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين