آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(12).

وينبغي التنبيه إلى الفرق بين الدّعوة إلى الإسلام أو تبليغه ، وتعني إلى الدعوة بأحكامه ، وبين الدّعوة إلى الله ، وتعني الدّعوة إلى أخد الطريق إلى معرفته ، كما ينبغي الفرق بين الجهاد في سبيل الله ، كما في قوله تعالى :(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ ) (21) وبين الجهاد في ذات الله ، كما في قوله تعالى :(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (22) وفي مقدمة السّبل سبيل معرفته والوصول إلى أسرار ذاته ، والجهاد في ذاته هو الذي يتّصل بتربية أرواح عباده ، ويحتاج إلى الإذن منه تعالى.

والقيام بإذن الله في التربية والدعوة حكم شرعيّ ، وسنّة نبويّة ، فالمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلّم - رغم مقام النبوّة - وهو اوّل مربّ وأول داعية إلى الله - لم يقُم إلا بإذن الله -. والدليل أَنه بعد أن نزل عليه الوحي أول مرة بقوله تعالى :(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (23) لم يقم بالدعوة ، حتى نزل عليه قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (24) فقام يدعوا النّاس سرّا ، حسب ما يقتضيه معنى الإنذار ، وما تسمح به الظروف ، ولم يتحوّل من السرّ إلى الجهر ، حتى نزل عليه قوله تعالى :(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (25) وقد وضع له تعالى منهاج الدعوة ، وحدّد إطارها وأسلوبها ، فقال :(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (26) وهو المنهاج الربّاني الوحيد ، الموضوع والمشروع لجميع الطرق الصوفيّة ، والدعاة إلى الله ، والحركات الإسلامية.. مَن خرج عنه خرج عن العمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبر مبتدعا ضالاّ مضلاّ.. وإنّ من سلك طريق العنف والشقاق ، وخرج من الجماعة ، وفرّق الصفوف ، يعدّ من الخارجين عن المنهاج السلمي الربّاني ، الذي حدّده الله لنبيّه ، ولا يعذّ بحال ، لا من الدعاة إلى الإسلام ، ولا إلى الله ، وأَحْرى أن يكون من الأولياء والعارفين.

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يقم إلاّ بإذن الله ، كان على الوليّ ، وبالأحرى أن لايقوم إلاّ بإذن الله ورسوله ، والفرق أن الدعوة تقوم على النبوّة بالأصالة ، وعلى الولاية بالإتّباع ، كما يقع الإذن في النبوّة بالوحي ، وفي الولاية بالخطاب القلبي.. ومقام الولاية تابع لمقام النبوّة ، والوليّ لا يصل إلى مقام الولاية الآّ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم ودعوته لاتكون بحقّ ، إلاّ إذا كانت تابعة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى مخاطبا لنبيّه :( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (27).

فكان أمر الدعوة إلى الله يقوم على البصيرة ، كمعنى باطنيّ ، قبل أن يقوم على النّظر والبصر ، كفكر ظاهريّ ، وبمقتضاه كان على الدّاعية إلى الله أن يكون على بصيرة من أمره ، كي لا يقع في الشّرك الظّاهر أو الخفيّ.. وقد يكون من الشّرك في الصّدق والإخلاص - لا في العقيدة والإيمان - أن يتظاهر شخص بالدعوة إلى الله أو لصالح الإسلام والمسلمين ، ويخفي وراءها أهدافا ماديّة أو سياسيّة... كما يقع اليوم ، وتلك من صفات المنافقين ، وليست من صفات المؤمنين المخلصين الصادقين ، الذين يتعاملون مع الله في الغيب. وقد رُوي في الثوراة أن الشخص الذي يدعو إلى الله بالله نبيّ ، والشّخص الذي يدعو إلى الله بنفسه كذّاب ، ويقاس على العبارة أن الشّخص الذي يعمل بالله لصالح الإسلام ومن أجله صادق ، والشخص الذي يعمل بإسم الإسلام في الظاهر ، وفي الباطن يعمل من أجل الشّهرة ، أو لمصلحة شخصيّة من أيّ نوع كذّاب.

وأمّا من قام بنفسه ، وبغير إذن ، لا من شيخه ولا من الله ورسوله ، مدّعيا الصّلاح والدعوة إلى الله ، فيترامى على إعطاء مختلف الأذكار اعتباطا ، فهالك مهلك. وقد عشنا - ونحن في عصر الذرَّة - مئاسي شباب أمرضهم - نفسيا وروحيا - من قام بنفسه ، ونصب نفسه شيخا مربيّا روحيا ، اعتمادا على أفكار يحملها ، ونظريات صوفيّة يحفظها ، وأوهام تلعب في مخيّلته ، جاهلا أن التربيّة - بدنية كانت أو عقليّة أو روحية - تستلزم وجود مربّ اختصاصيّ أقوى اعتبارا من من المربيّ ، وأن البدن القويّ يربيّ الأبدان الضعيفة ، والعقل المثقّف يربيّ العقول غير المثقّفة ، والأولياء المأذون لهم في التربيّة الروحيّة ، يربّون غير المأذون لهم ، والبصائر النيّرة المفتوحة تربيّ النفوس المظلمة ، والقلوب التّي عرفت ربّها تربيّ الغافلة المحجوبة عنه ، والأرواح المُلهمة تربيّ الأرواح غير المُلهمة.. وتربية الأرواح من أخطر أنواع التربيّة لأنها تتناول الإنسان في جوهره.

وقد تعرّفت على شابّ متديّن صالح أخلاقي.. تسلّط عليه مشعود يدّعي الصّلاح ، فنزل عليه بأكوام من الأسماء ، وآلاف من سورة "قُلْ هُوَ الله أحَد" فتزلزل شعوره وجدانه ، واختلطت روحانيته بالرواحن ، فتوسوس ، ومرض نفسيا وروحيا ، وكان مصيره أن انتحر.. وقانون الدولة لا ينبغي أن يغيب في مثل هذه الظروف ، ويجب أن يعرف طريقه إلى بائعي المخدّرات من هذا النوع.. وإذا ضاعت دية الشاب بتعطيل الحدود ، وغياب القانون ، أو عدم الإلتجاء إليه ، وهو الأظهر ، فخاصم قاتله يوم القيامة هو الله. وإن كان سوء تصرّفه بالإرتماء في أحضان المشعودين لا يخلو من مسؤولية شخصيّة ، ولدرء مثل هذه الأخطار ، ووضْع المعالم في طريق الحق ، اخترنا أسلوب الطريقة الصوفيّة البودشيشيّة ، التي عشنا فيها أكثر من ثلاثين سنة نمودجا تربويّا وعلّقنا الأمر بشيخها الحالي - 1997 - الحاج حمزة بن العبّاس.

**    **    ** 
22 - سورة العنكبوت :69
23 - سورة العلق :2
24 - سورة المدثر :2
25 -سورة الحجر :95
26 - سورة النحل :125

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية