آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(14).

ثم ما هو المصدر الأصلي والشّرعيّ للإذن الخاصّ المحتمل للوليّ العارف بالله ، أو لشيخ التربيّة الروحيّة في الغيب ؟ حسب رواية البخاري ومسلم - بناء على ما ثبت للصحابي عمر بن الخطاب ، وما ثبت له يصحّ أن يثبت لوليّ غيره - قد يكون الوليّ أو العارف بالله محدَّثاً بفتح الدال ، أو مكلّما في الغيب بفتح اللّام ، . فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :" ‏ ‏لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ ‏ ‏بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏ ‏رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ ‏ ‏فَعُمَرُ ‏ ‏" (34) وما صحّ لأتباع موسى يصحّ لأتباع محمد بالأحرى ، وكما تقدّم فالوحي خاصّ بالأنبياء ، ويكون بواسطة الملك ، والخطابات الإلهيّة القلبيّة خاصّة بالأولياء والعارفين ، وتكون بواسطة التحديث أو التكليم الغيبيّ.

وقد روى الحافظ بن حجر عند شرح هذا الحديث في "فتح الباري"عن سفيان بن عُيَيْنَة وعَبْد بن حُمَيْد بسند صحيح عن عمرو بن دينار أن ابن عبّاس كان يقرأ :"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ولا مُحَدَّث" والمحدَّث من شأنه أن يكون من العارفين ، ومن الأولياء الذين تولّى الله أمرهم ، وأفاض على أرواحهم من علوم معرفته ما لا ينال إلاّ بالفضل والكرم.. ومعرفة الله من أجلّ العلوم ، وأعظم ما يكرم به الله بعض عباده الصالحين المصلحين .
وقد قال الحافظ بن حجر ، تعليقا على حديث أبي هريرة في المحدَّث أوالمكلَّم ، المطبَّق أصلا على عمر :"الحديث له أصل من حديث عائشة ، وحديث عائشة قد روي من عدّة طُرق ، وأخرجه مسلم والترمذيّ والنسائي وابن سعد ، وممّا جاء فيه :"أَشْهَدُ أَنَّك مُكَلَّم"(35).
ويبدو أنَّ المحدَّث والمكلَّم - بمعنى حدَّث وكلَّم - مترادفان ، وفي معنى المحدَّث قال الحافظ بن حجر :"قيل مُلْهَم ، قاله الأكثرون وفيه نظر"وفي المكلَّم أو فيهما قال :"وقيل مكلَّم أي تكلّمه الملائكة من غير نبوّة ، وهذا وارد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ، ولفظه :"قيل يارسول الله صلى الله عليه وسلم :"وكيف يحدّث ؟ قال :""تَتَكَّلّمُ الملائكةُ على لسانه" وقال ويحتمل ردّه إلى المعنى الأول أي تكلّمه في نفسه " ثم نقل عن ابن سعد أنه قال :" المراد بالمحدّث المُلْهَمْ البالغ في ذلك مَبْلَغَ النبيّ في الصّدق والمعنى" (36).
الظاهر - رغم اختلاف اللآراء - أن لفظيْ المحدَّث والمكلَّم من معنىً واحد ، وأيهما لا يصحّ أن يحمل على معنى المُلهم ، والأظهر انه صوت الحقّ أو نداء الحق ، يتصاعد من قلب الوليّ أو العارف.. على عكس الإلهام الذي من معنى باطنيّ شعوريّ وجدانيّ توفيقيّ... وفي معنى الإلهام يقول تعالى :" وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا" (37) أوحى هنا بمعنى ألهم بدون صوت ،على عكس حدَّث و كلَّم.. فيكون الله تعالى بهذا المعنى ، قد أوحى للأولياء الملهمين في موضوع التربيّة - لا في الإذن القائم على التحديث والتكليم - أن يربّوا أرواح عباده.

ثمّ من يحمل صفة المحدَّث أو المكلَّم في الغيب ؟ وفي أي إطار نضع النصوص السابقة ؟ ومن يعيش حقائقها ؟ أيعيشها الأدباء والفلاسفة والمفكّرون والفقهاء والكلاميّون... أم يعيشها أصحاب الحقيقة الباطنيّة ؟ قد يعيشها الأدباء والفلاسفة والمفكّرون والفقهاء والكلاميّون ، إن كانوا من أصحاب الحقيقة القلبيّة ، ما دامت الحقيقة الغيبيّة تعرف القلوب ، وتجهل العقول ، والعقول لا تُعرقلها إلاّ إذا كانت جاحدة.. وماذا يعني التّحديث او التّكليم في الغيب ؟ أيعني الإتصال في عالم الأرواح ، أم في عالم الأشباح ؟ وقد رُويَ عن الصحابيّ أبي ذر الغفاري أنه قال :" لقد تركنا رسول الله ، وما يحرّك طائر جناحَه في السماء ، إلاّ وذكرنا معه علما" (38) وأيّ علم ؟ وبأيّ قلب ؟.
ومما يؤسف له أن الحقيقة الغيبيّة ، كما هو الشأن بالنسبة لمقوماتنا الأساسية - قد أصابها من التفسّخ - نتيجة غياب الصدق والإخلاص ، وعدم الإدمان على الذكر بتوجّه قلبيّ ، وانقطاع المَدد والسرّ ، وتجمُّد الشّعور والوجدان ، وجفاف القلوب من المعانيّ الروحيّة واحتلال المدّعين مراكز الاولياء والعارفين - ما ذهب بقيمتها كأسمى ما في الوجود ، إلى درجة أنّ شيح الطريقة يقال : إنّها صوفية ، أو رئيس ما سمّوه بالمجلس الأعلى للتصوف - والتصوّف الحقيقيّ عبارة عن حقيقة غيبيّة يمدّ الله بها من يشاء - ينتخب ، كما ينتخب رئيس الجمعيّة الرياضيّة.. فقد ضيّعنا رأس المال المادّي والمعنوي ، وتخلّفنا في الظّاهر والباطن ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كُلَّ يَوْم تُرْذَلون" مع العلم - والعنف والخلاف يشتدُّ بيننا - بأنّ المعاني الروحيّة والخلُقيّة ، في الحفاظ على طمأنينة المجتمع واستقراره ، تمثّل دور الزّيت في المحرّك ، إذا جفّت القلوب من معاني الأخوة والشّفقة والرّحمة ، اصطدمت الأفكار بعضها ببعض ، كما يرتطم الحديد عند جفاف الزّيت في المُحرّك.. ومن هنا تبدو أهمّية وجود الأولياء والصالحين والعارفين ، كمعالم الإهتداء ومصادر التوجيه المعنوي داخل المجتمع.

**   *   **

34 - البخاري : نسخة الفتح 50/8-51
35 - فتح الباري 8/49
36 - البخاري : نسخة الفتح 50/8-51
37 - سورة النحل :68
38- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي1/ 42 للحجوي


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية