إنّ الأولياء أو شيوخ التربيّة الروحيّة ، الذين يمكن الإنتفاع بصحبتهم ، ومرافقتهم في عالم الأرواح بغية الوصول إلى الحقيقة بسلامة ، واتّزان عقليّ وخلقيّ ، هم الذين عرفوا ربّهم ، وصدقوا عبادَه ، وقاموا بإذنه ، ودعوا إلى شريعته ، سائرين على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم وسَنَنه وسُنَنه وعَمَلَ صحابته... وكثيرا ما ينعتون بالدعاة إلى الله ، وإذا تخصّصوا في التعرّف على مسالك النفوس وطبائعها ومعادنها ، وحاولوا معالجة أَوَدهَا واعوجاجها ، إلى جانب التوجيه والإرشاد والدعوة عرفوا بشيوخ التربيّة الروحيّة ، المعتمدة أساسا على اتصال الأرواح ، وتقوية بعضها ببعض ، واعتبروا خبراء متخصّصين في الدّلالة على الله ، كما تقدّم في قوله تعالى :(الرَّحْمان فاسْأَل به خبيرا) وقيدومهم الروحيّ يعرف بالقطب.
وقد ذكر ابن خلدون ما يقرّرُه أصحاب الحقيقة الصوفيّة ، وينكره خصومها ، من أن القطب هو هو رأس العارفين ، لا يمكن لأحد أن يساويه في مقامه ومعرفته ، حتى يقبضه الله ، ويورّث مقامه لآخر من أهل العرفان ، ويكون مخفيا خفاءً معنويا لا ظاهريا ، وهو في ظاهره كمطلق الناس ، تراه ولا تراه : تراه بالبصر ولا تراه بالبصيرة ، وفي شأنه ينقل ابن خلدون عن ابن سينا في "كتاب الإرشادات" وإن لم يتّفق معه في التعبير ، أنه قال : " جلّ جناب الحقّ أن يكون شرعة لكل واحد ، ويطّلع عليه إلاّ الواحد بعد الواحد" (39).
والذين يطّلعون عليهم هم الذين زالت غشاوة الغفلة عن قلوبهم ، واطّلعوا بأرواحهم على مقامه ، ورأوا حقيقته ببصائرهم ، فالأبصار ترى الأجسام والماديات ، والبصائر ترى الحقائق والمعنويات.. والذين رأَوا جسم الرسول صلى الله عليه وسلم بأبصارهم ، ولم يروا حقيقته ببصائرهم ، هم الذين قالوا : (وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (40) إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله تعالى لأمثالهم ، وبشيراّ للمؤمنين الصادقين المصدّقين ، والله لا يبلّغ شرائعه للأمم بواسطة الملائكة ، وإنّما بواسطة رسل يجتبيهم ويصطفيهم من بين عباده الصالحين ، كما لا يهديهم بواسطة الملائكة ، وإنما بواسطة الصالحين المصلحين :(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (41) وقد ينظر الأميّ بالبصيرة ، وينظر العالم بالبصر ، أَو ينطلق الأميّ من التصديق ، أو التسليم بما لا يعلم ، والعالم من الشك والفضول فيما لا يعلم.. فهذا عالم أعجب بفكره ، وانقلبت مفاهيم السلفيّة في مخيلته ، فنفى ما أثبته ابن سينا وابن خلدون والسيوطي وغيرهم ، وقال عن غير دليل شرعيّ ، أو كشف باطنيّ :"القطب لا وجود له" فردّ عليه رجل أميّ حضر مجلسه بقوله :"إذا وجد فأنت محروم من فضله" وما يضرّ هذا العلم لو سكت عمّا لا يعلم ، ويترك العلم في المغيّبات لعلّام الغيوب.
وما ورد في "كتاب الإرشادات"لابن سينا - على تخصُّصه العالميّ - يدلّ بوضوح على أن الحقيقة الغيبيّة لا تتعارض مع أيّ تخصّص علميّ ، إذا كانت القلوب موجّهة إلى الخالق ، وهو ما يجهله بعض المتخصّصين في مختلف العلوم ، فيخسرون من حيث يربح غيرهم.. إنَّ شمس الحقيقة كشمس السماء : هذه تدخل إلى كلقلب موجّه لمصدرها ، وتلك تدخل من كل نافذة فتحت أمامها ، ومن أعرض بقلبه ، وغلّق نافذته عاش في الظلام الحسيّ والمعنويّ.
إن أصحاب الحقيقة الصوفيّة يركّزون في الدرجة الأولى على القلب ، كمصدر أساسي للمعاني الساميّة الخالدة ، ثم على العقل كأداة مدبّرة لنظام الحياة ، كما يركّزون على الحقيقة كفضل وتكرّم ، ثم على الشريعة كواجب مقدّس.. ويرون ضرورة الشّيخ المربيّ في طريقة الحقيقة... والمستكبرون عن اتخاد الشيخ في طريق الحقيقة ، ورفض مسالك العارفين ، فأمرهم لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يبقوا على مستوى الشريعة ، وإما أن يخاطروا بأرواحهم فيحاولوا تصفية الحسابات مع نفوسهم ، ويسلكوا الطريق الوعر المجهول بلا بديل.
و لا شكّ أنّ من يحاول تصفية الحسابات مع النفس ، والخروج بها شخصيّا من عالم الغفلة إلى عالم اليقظة القلبيّة ، بدون شيخ عارف المسالك الباطنيّة ، يراقب أحواله ، ويرجع إليه في حالة أَيّ مدّ أو جزر في روحانيته ، قد يؤدّي به الأمر إلى الجدب ، ونحن في عصر الذرَّة.. والجدب انحراف روحيّ ، قد يقع عادة لغير السالكين سلوكا باطنيّا حصينا مؤمَّنا ، وهم الذين تجدب الحضرة الإلهيّة أرواحهم ، أو تنجدب نحوها ، دون الوصول عن طريق السلوك الباطنيّ المعنويّ ، والمرور بالحضرة المحمديّة ، ثم الإلهيّة.. ومن ثَمَّ فالمجاديب أَحديُّون جلاليّون ، والسالكون محمّديون شرعيّون أخلاقيّون جماليّون ، ثم أحديّون ربانيّون... وإن كان كان المجاديب أولياء ، كما يرى ابن خلدون : بمعنى أنّ الله تولّى أمرهم ، وأرادهم على تلك الحالة ، لكن لا ينفعون ، وقد يضرّون باطنيّا من أساء إليهم ظاهريّا ، كما وقع قديما لعالم يرى أنه سلفيّ تعدّى على مجدوب بمدينة مراكش رحمه الله.
و المعلوم أن الجدب يؤدي إلى خلل في نظام الحياة ، فينبغي تجنّبه بتجنّب الأسباب والوسائل التّي تخلقه ، ومنها أن يترامى شخص على أنواع الأذكار ويحاول أن يعالج روحه بدون طبيب روحي ، ويشبهه من يترامى على أنواع الأدوية ، ويحاول أن يعالج جسمه بدون طبيب جسماني.. والمحفوظ تاريخيّا أنّه ما ثبت أن مريدا له شيخ مربّ حقيقيّ ، ووقع له الجدب ، وإنما يقع لمَن يحاول أن يربّي نفسه بنفسه ، أو لمن أسلم نفسه لشيخ مزوَّر يكيل له الأذكار جزافا ، ويعلم الله كم من مدّعي المشيخة ، وهو في حاجة إلى شيخ حقيقيّ ، ينقده من الغرق في بحر الوهم.. على أن الأمر لا يتعلّق بالعبادة كحقل مشترك بين الناس أجمعين ولا بالذّكر التعبديّ الوارد في السّنة ، وإنّما لمحاولة تصفية الأرواح ، بغية الوصول إلى الحقيقة الغيبيّة ، التي عاشها الأولياء العارفون.
أما الدليل على مشروعية الصّحبة ، التي تربط المريد بالشيخ ، فهي - شرعا - سنة ، قامت بين الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ، وفيها قال الله تعالى في قصّة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلّم مع صاحبه أبي بكر : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) (42) وقد اعتمدها الصوفيّة في مشروعيّة اتخاد المريدين ، ونجد لها أصلا حين تستهدف ما يرون من تقوية ضعيف الإيمان ، أو ضعيف الباطن بمصاحبة قويّة فيما ذكره الإمام ابن تيمية من العلاقة الروحيّة بين أبي بكر وعمر ، وتغليب قوّة الإيمان عند أبي بكر على قوة العمل عند عمر ، وتغليب قوة الإيمان عند الشيخ إلى جانب الإذن هي الفرصة التي تمكّنه من تربية المريدين.
فبعد أن قال ابن تيمية :" فلا ريب أن أبابكر أقوىَ إيمانا من عمر ، وعمر أقوَى منه عملا" ابرز اهمية الصّحبة ، واستفادة المصاحب من صحبة من هو أقوى منه إيمانا ، وقوة الإيمان هي الشّرط الأساسيّ ، والمدخل الوحيد إلى عالم الحقيقة الغيبيّة ، وعمر أوّل من سجّل في سجلّ الحقيقة الغيبيّة ، كمحدَّث أو مكلَّم في الغيب ، يقول ابن تيمية : "وكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم وبعد موته ، يحصل لعمر بسبب أبي بكر من الإيمان والعلم ما لم يكن عنده ، فهو الذي قد دعاه إلى ما فعله وأعانه عليه بجهده" (43).
إذا كان عمر صاحب التجلّيات ، كما في "يا سارية الجبل"وحُدّث أو كُلّم في الغيب ، وتوافقت آراؤه مع ما ينزل به الوحي ، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم :(لقد كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فإِنْ يكُن فِي أُمَّتِي أَحَد فعُمَرُ) وقال : (لَو كانَ بَعْدي نَبيٌّ لَكان عمر) إذا كان عمر مع هذا المقام قد استفاد من صحبة أبي بكر ، فكيف لا يستفيد شخص محجوب ، ضربت الغفلة بكَلْكَلها على باطنه ، من صحبة شيخ عارف بالله ، يأخد بيده من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ؟ والغفلة - عل عكس ما يجهله البعض - لا تعني عدم الأعمال الظاهرة ، وإنما تعني كشف الحجاب عن الباطن.
والطريقة المتّبعة لدى شيوخ التربيّة الروحيّة أنهم يعتمدون ابتداء على الإذن في الذكر وتلقينه ، ونجد لعملهم سنداً شرعيّا فيما رواه الطبراني والبزّار بسند حسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلّم أوصى سيدنا عليا بقوله :"عَليكَ بمُداوَمَة ذكْر الله سرًّا وجَهراً" فقال : وكيفَ أذكُر ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم :(غَمّضْ عَيْنَيْكَ ، واسْمَعْ منّي ، ثمَّ قل :لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثلاثَ مرّات ، ثم قلها ثلاثاً وأنا أَسْمَعُ ، ثم قُلْ ذلكَ برَفْع الصَّوت) ويُروى أن الصحابيّ عبد الله بن مسعود قال : "عَلَّمني رسول الله الشهادتين ويدي بين يديْه" والمعلوم أن الشيخ يضع يده بيد المريد أثناء تلقين الذكر مصافحة له.
** ** **
39 - المقدمة ص 875
40 - سورة الفرقان : 7
41 - سورة الحج : 46
42 - سورة التوبة : 40
43- الإيمان ص :290