آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(16).

ومما يركّز عليه شيوخ التربية الروحية اتصال الأرواح ، اتّصالا معنويّا مطلقا.. وتربيّة الروح بالروح تعرف عندهم بالتربيّة بالهمّة أو الإلهام . وهي تربيّة معنويّة صامتة تعمل عملها في الشعور والوجدان ، كما يعمل الماء عمله في أغصان الشجر بدون كيف ؟ ذلك أن الاجسام مقيدة بأماكنها ، والعقول محدّدة ومقيّدة بمدركاتها داخل المادة ، والأرواح الطاهرة حرّة مطلقة تسبح في الملكوت ، واتّصالها هو السّر في التحولات الباطنيّة ، وسريان الأسرار والأنوار القدسيّة بين القلوب الطيبة الطاهرة سريان الكهرباء في أسلاكها ، وإذا وقع الكدَر ، وتغيّرت القلوب ، أو وقع خلل بمخالفات شرعيّة ، يتوقّف سر الله ، كما يتوقّف التيار الكهربائي ، وإذا وقع خلل في الأسلاك.. وما ألهموا من فعالية اتّصال الأرواح ، وتأثير القويّة منها في الضعيفة ، أو مدّها بما تحمل من المعاني حال الذّكر نجد له سندا شرعيّا في حديث الصحابي حنظلة وأَبي بكر الصديق من رواية مسلم.

فعن حنظلة أنه قال : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ ، قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ ؟ ، قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَا ذَاكَ ؟ " ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " .
وساعة وساعة يعني - والله أعلم - أن الدّ والجزر يقع في المعنى ، كما يقع في الحس ، واختلاف الأحوال وذَبْدَبَتُها ما بين قوّة وضعف من طبيعة النفوس.


يضاف إلى ما تقدّم من فعالية اتّصال الأرواح ما رواه الترمذي والإمام أحمد وابن ماجة عن أنس بن مالك انه قال : " َمَا نَفَضْنَا التُّرَابِ عن أَيْدِيَنَا ، من دَفْنِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا " . أنكروا قلوبهم حالَ اختفاء روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكروا أعمالهم ، وكثيرا ما يقال :" اللهم ارحمنا بالمرحوم فينا" والرحمة مصدرها القلوب الطيّبة الطّاهرة ، كما تجلى في قول الله في العبد الصالح ، الذي تلمَّذ نبيّ الله موسى عليه السلام على يده (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فكانت الرحمة هي الأرض المعنويّة ، التي تنبت فيها الحقيقة الإلهية والعلم اللّدني ، فكان أصحابها أرحم الناس بعباده ، كما تقدّم في قولهم :"لا تكرهْ يهوديا ولا نصرنيّا واكْرَه نفسك التي بين جنبيك" ومن لا يكره لا يهوديا ولا نصرانيا غير وارد أن يكره المؤمنين ، وتلك أخلاق أصحاب الفيوضات الربانيّة.. وقد أوضح الشيخ أحمد التيجاني في كتابه"جواهر المعاني"أن مدد الله ، الذي يجري في كل عصر ، يجري على يد خاصّة الخاصّة من عباد الله الصالحين الأحياء : حياة مادية ومعنوية ، والحكمة في الحيّ ، والحي يعني اتّصال الأرواح ، ويقال :"سرّ الحق في الخلق" وحامل سرّ الله لا يكون إلاّ حيّا .

ولذلك يشترطون في التربيّة الروحيّة صحبة الوليّ الحقيقي الحيّ ، لأنّ الميت لا يربّي الحيّ.. والفراغ الذي يسدّه الحيّ ، في ميدان التربيّة والإرشاد والدعوة والعمل الإسلامي ، لا يسدّه الميّت ، وإن كان أعلى مقاما في حياته . وقد خرج عمر أيام خلافته لصلاة الإستسقاء ، والإستسقاء يعني إقامة صلاته ، والصلاة عمل تعبّدي لا يقوم به إلاّ الحيّ الأمر الذي يجهله من لم يفرّق بين العمل الديني ، ومثله التربيّة الروحيّة ، وبين رفع الكُفوف بالتوسّل والدعاء ، ورفَضَ مطلق التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وهو يرجو شفاعته ، على الرغم من أن عمر لم يصرّح برفض التوسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قدّم العباس ليقوم بعمل يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته .

إن الذين لا يطرحون ضرورة صحبة الشيخ الحقيقيّ الحيّ ، كرفيق روحيّ في السلوك الباطنيّ - استغناءً بمعلوماتهم ، ونتائج عقولهم المحدودة الإدراك - لا يفرقون بين العبادة والأحكام ، وأخد الشريعة من الكتب ومن أصحابها ، وبين تربيّة الأرواح ، التي تصفو وتطهر تحت الدّفئ الروحيّ المعنويّ الصامت ، كما يقع للبيض تحت الدجاجة ، وتنبعث فيه الحياة الماديّة - كما تنبعث المعنويّة في القلوب - نتيجة الدفئ الصامت تجلّت فيه حكمة الله البالغة 

والعقل -وإن بلغ ما بلغ من التقدّم -لا يستطيع أن يحدّد من أين ؟ وكيف تدبّ الحياة داخا البيض ؟ وكيف تعرف الدجاجة تمام الحياة ؟ لتفقس البيضة ، أو تنفجر القشرة من تلقاء نفسها ، وينطلق الحيّ يمشي على رجليه ، كما لا يستطيع العقل أن يحدّد كيف يتكوّن العسل داخل السلّة ، والنحل تمرح فوق الزهور ، ولا تدخل إليها أيَّ مادة ظاهرة ، ويُحكى أن شخصا أجنبيا حاول أن يكتشف السرّ في إنتاج النحل وعملها فوضعها في زجاجة ، وأُلهمت أن تطلي الزجاجة قبل البدء في عملها ، إخفاء لسرّ الله وحكمته .

وهذه امثلة حيّة ظاهرة ن تدلّ على أن العقل عاجز عن شرح حكمة الله فيما يراه في عالم الشهادة ، وكيف لا يكون عاجزا عن شرح حكمته فيما لا يراه في عالم الأمر : عالم الرّوح اللّامخلوق و اللّامنظور و اللّامحدود... (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(44) والفضوليّ كل الفضوليّ هو الذي يغترّ بفكره ، ويتجاوز به ميدان العقل إلى فوق مدركاته .

ومن ثَمَّ فالشيخ المربيّ الحقيقيّ الروحيّ العارف بالله ضروري في ميدن التربيّة الروحيّة ، وحبّذا لو نقل المرحوم احمد أمين رأي ابن خلدون ، حيث ذكر أن له رسالة خطّية قرأها ، فقال :"أحسن ما رأيت فيها البحث في أنّ سالك سبيل التصوّف ، هل لابدّ له من شيخ يأخد عنه التصوّف أو لا " ؟ (45) والجواب أن اتّخاد الشيخ المربيّ في الميدان الروحيّ ضرورة تفرض وجودها ، وقد اتخده كبار العلماء والمفكّرين من أمثال الإمام الغزّاي والشعرانيّ ، ويقول عبد القادر عيسى :" لا يمكن الحروج من النفس والتخلّص من دقائق الرياء من غير شيخ أبد"(46) وبَحْث ابن خلدون لسنا في حاجة إليه إلاّ من أجل نقله لمن لا يقتنع إلاّ بآراء المفكّرين ، على الرغم من أن رأي المجرِّب يقدّم على رأي المفكّر ، تقديم الجانب العمليّ على الجانب النظريّ ، وتقديم من يعيش الحقيقة على من يصفها .

ونقول - تعليقا على قوله : هل لا بدّ له من شيخ يأخد عنه التصوف أولا ؟ إنّ التصوف كحقيقة غيبيّة إلهيّة لا تؤخد عن الشيوخ ، كما تؤخد العلوم الظاهرة ، فالحقيقة ليست هدية يملكها الشيخ ، ويضعها في في يد المريد ، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر الحقائق الغيبيّة يقول فيما أخرجه البخاري :(إنّما أنا قاسِمٌ والله يُعْطي) في الحسّ والمعنى ، المعطي موجود على الدوام ، والذي يبحث عنه هو القاسِم ، الذي يجري الله قسمة عطائه على يده ، ومن عرف القاسِم عرف باب العطاء الإلهيّ .

والذي ياخده المريد عن الشيخ ليس التصوّف ، وإنّما الصدق والإخلاص ، وطهارة القلب وصفاء السريرة ، والعبودية لله ، وحسن الظن به وبعباده ، وتوجيه القلب نحو المعطي ، الذي تقع الحقيقة بين قدرته ، يمدّ به - أين شاء ، وكيف شاء ، ومتى شاء - بعضَ عباده المخلَصين -بفتح اللام - . ولقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يمكن أن نعتبره من صفات شيوخ المعرفة في التربيّة الروحيّة ، وقد سُئل : أيُّ جلسائنا خير ؟ فقال - فيما رواه أبو يعلى بسند صحيح عن ابن عباس ، واعتمده الحافظ الهيتمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" :(مَن ذَكَّرَكُم الله رُؤْيَتُهُ ، وزادَ في علْمكُمْ مَنْطقُهُ ، وذَكَّرَكُمْ في الآخرة عَمَلُهُ).

وبالمناسبة نتسائل : على أيّ طائفة يصدق ما رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الحقّ ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خدلهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظاهرون) هل يصدق على الذاكرين أو على الغافلين ؟ وهل على العارفين بالله ، أو على الجاهلين لحقه وحقيقته ؟ وهل على اهل الله ، أو على أهل الدنيا ؟ وهل على المحبين لله ولرسوله ، أو على المحبين للمال وأهله ؟ وهل على العملين بكتاب الله وسنّة رسوله ، أو على من قال الله في شأنهم :(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )(44) وهل على المسالمين الربّانيين أو على الممارسين لأساليب الشقاق والعنف ؟ وهل على المتخرّجين من مدارس التربيّة الروحيّة والأخلاق الفاضلة ، الحاملين لشهادات العبودية لله ، والخضوع لعظمته وجلاله ، أو على المتخرّجين من مدارس الفلسفة السوفسطائيّة الجدليّة ، الحاملين لشهادات العجب والغرور...! إنهم بلا منازع هم المتخرّجون من المدارس الروحيّة الربّانية المحمديّة ، الحاملين لشهادات العبوديّة لله والخضوع لعظمته وجلاله .

وإذا وضعنا الإعتبار انّ التربيّة بمفاهيمها المختلفة ذات أهميّة خاصّة في هذا العصر ، وقد عرفت طريقها حتى بالنسبة للدواب والحيوانات.. والإنسان المسلم باعتباراته المختلفة في حاجة إلى التربيّة الدينيّة والخلقيّة والروحيّة والعقليّة والبدنيّة... وأنّ المربيّ الإختصاصي شرط أساسيّ في كلّ نوع من أنواع التربيّة ، سنقتنع بضرورة الشيخ المربيّ في الميدان الروحيّ ، إلاّ أنّ مهمته تقتصر على الوسائل الشرعيّة ، والمعنويّة الربانيّة في تربيّة الأرواح وتطهيرها وتصفيتها ، ولا تتجاوزها إلى ما عداها من إصدار الأحكام الشرعيّة ، التي من اختصاص علماء الشريعة ، إذ لم يكن من أصحابها .

**    **       **
44 - سورالاسراء : 85
45 - ظهور الاسلام 2 / 60
46 - حقائق عن التصوف ص 117


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية