آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(17.).

و الملاحظ أن المسلمين قد اهتمّوا بالتربيّة البدنيّة ، وأسّسوا لها مراكز ، وكوّنوا مربين رياضيّين ، وبالتربيّة العقليّة والثقافيّة ، وهيّئو لها أساتذة ، وبنوا المدارس والمعاهد والجامعات ، وأهملوا التربيّة الروحيّة على أهميتها ، وتجاوبها مع الإسلام في مصدره الدينيّ والروحي ّ والعَقَديّ والخلقيّ ، ومع مقوّمات المجتمع في السلم والمسالمة ، وكينونة المسلم في الشكل والجوهر... وقد حارب البعض الزوايا التي تعتبر -كلّما عرفت الصدق والإخلاص ، والعمل بالكتاب والسنة ، ومراقبة الله في الغيب ، والقيام بأمره ونهيه ، وتدفّق سرّها ومددها - مدارس للإشعاع الروحيّ . على الرغم من أنّ التربيّة الروحيّة ، وما ينتج عنها من معاني الأحوة والمحبة والصفاء ، تعتبر بالنسبة للمجتمع بمثابة الزَّيت في المحرّك. تحول دون تحاكك الأفراد ، كما يحول الزّيت دون تحاكك الحديد . وعلى اعتبارها ينشأ الأمن والاستقرار في المجتمعات ، وهو السر الكامن من وراء قوله تعالى :(ألاّ بذكْر الله تَطْمَئنُّ القُلوبُ) (48) وقوله :(هَوَ الذّي أَنْزَلَ السَّكينةَ في قلوب المومنين) (49) فالأمن والاستقرار في المجتمعات ، ليس بمطر ينزل من السماء ، أو تفّاحة تجنى من الشجرة ، أو يصنعه أسلوب القهر والجبروت.. والتّيارات الاجتماعيّة كالنّار ، والنار لا تطفأ بالبارود ، وإنما تطفأ بالماء : ماء التودّد والتراحم والملاينة والملاطفة... وليس الحلّ إلاّ رحمة وطمأنينة وسكينة وسلم ومسالمة ... تأتي من رحمة وطمأنينة وسكينة ومسالمة فرد إلى فرد ، وتسري في أوصال المجتمع ، كما يأتي منه الغضب والإجرام ، والإضطراب والقلق ، والعنف والشقاق ، ويَسري في أوصال المجتمع ، وهو أول لَبنَة في بناء المجتمع ، يصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده .. كان في القمّة أم القاعدة ، علما بأن الفرد الصالح يُكوّن أسرة صالحة ، والأسرة الصالحة تُكوّن مجتمعا صالحا ، والمجتمع الصالح يكوّن دولة صالحة ، وما يقال في الصلاح يقال في الفساد ، ويقال في التقدم والتخلّف...

وقد تقدّمت الإشارة إلى أنّ الذين يدخلون إلى إصلاح المجتمع ، من باب إصلاح الفرد بوسائل سلميّة شرعيّة خُلُقيّة ربّانيّة ... كما هو أُسلوب المرسلين وأتباعهم من الأولياء العارفين ، هم المصلحون بحق . ومن خصوصيته أنه - ككل الأساليب الإختياريّة - بطيئ النتائج ، ولكن لا يعرف الإنتكاس والفشل.. والنمودج الأصلي في عمل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أصلح الله بعمله مجتمعا عربيّا جاهليّا ، يعتبر من أكثر مجتمعات الدنيا فسادًا وجهلًا وجهالة ، وتشتّتا وتفكّكا وتمزّقا... وأخرج منه بإذن ربّه أعظم أمّة في صدره الذهبي ، وقد وصفها الله تعالى بقوله :" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"(50) المعروف يعني السلوك القويم ، المتعارف عليه داخل مجتمع مثالي ، والمنكر ما أنكر الشرع والعرف والعقل والذوق السليم... ومن معاني المعروف - اجتماعيا - التئاخي والإتحاد والعمل ، والمنكر : التنابذ والتنازع والتفرقة... والسر من وراء هذا الإصلاح المحمّدي الإيجابي المتكامل ، المنطلق أساسا من الصّفر ، ومن وراء هذا الإنجاز العظيم الربَّاني ، الذي لم يعرف له تاريخ الأُمم والمجتمعات مثيلا ، هو المتجليّ في حقيقة قوله تعالى :( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)(51) ألّف الله بين قلوبهم ، فتأَلّفت حكوماتهم ومجتمعاتهم ، وهو السرّ في قوّة أوائل هذه الأمة ، واتحاد صفوفها ، واليوم - بعد غياب هذا السرّ بغياب مصدره -( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ)(52).

وأين نحن اليوم من منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ الذي ركّز فيه -قبل فرض العزائم والأحكام - على تربية الفرد روحيّا وخلقيّا وشعوريّا ووجدانيّا ، قصْد تصحيح العقيدة والإيمان ، لأن المؤمنين - لا المسلمين -هم وحدهم الذين يؤتون القوّة والقدرة على تطبيق العزائم والاحكام ، والتضحية في سبيل نشر الإسلام وبناء حضارته ، إذ الإيمان قوّة إلهيّة معنويّة لا تقهر ، والإسلام انتساب ونِحلة ، كما تجلى في أحوالنا اليوم.. وقد عكف الرسول صلى الله عليه وسلم - قبل تأسيس المجتمع الإسلامي بالمدينة ، والإذن في الجهاد - على تربية الفرد ظاهرا وباطنا أكثر من نصف أمَد نزول الوحي ، حيث قضى بمكة ثلاثة عشر سنة ، ولم يتجاوز اثناءها تكوين حواليْ مائتيْ رجل ، لكن ما من أحد منهم إلّا كطود شامخ " واحدٌ كأَلْف وألْف كَاُف" كما يقال ، وبهم انتشر الإسلام في أرجاء المعمور ، وبهم أُقيمت الأنظمة والقوانين ، كما وقع في عهد عمر ، وبنيت حضارته في ثلاث قارّات .

إنّ الكل ينادي اليوم بالإصلاح الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والديني والخلقي... ولكن لا أحد يضع أصبعه على مصدره المتمثّل في إيجاد الإنسان الصالح . قد دعوا إلى إسلامية العلوم والأنظمة والقوانين ، ولم يدع أحد إلى إسلامية الإنسان ، الذي -بصلاحه أو فساده - يُسلمها أو يغيّرها ، فتتغيّر الأحوال بتغييرها ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(53) ويرون فساد الأوضاع ولا يرون مصدر إصلاحها.. إن الأنظمة والقوانين لا تقيم نفسها بنفسها ، وإذا فسدت لا تصلح نفسها بنفسها ، وإنّما الإنسان الصّالح هو الذي يقيمها ، ويصلحها إذا فسدت ، وفاقد الشيء لا يعطيه . وقد تبقى فاسدة إلى أن يقع الدخول من باب إصلاحها بالله ومن أجله ، وتلك من مهمّة الإنسان الصالح ، وإنما لا يصلحها باسم الإسلام من يروم من خلال عمله أيّ غرض دنيويّ ، أو هدف ماديّ أو سياسيّ... ان الله لا يقبل الشرك فيما يعلن باسمه ، سواء في الذّات والصفات ، أو الصدق والإخلاص في العقيدة والعمل ، ولا يقبل إلّا ما هو له "كُنْ مَعَ الله ترَ الله مَعَكَ" وهنا يجب على المجتمع أن يعترف لِأولي الفضل بفضلهم ، ويكافؤهم بالشكر على إصلاحه ، ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلّم وصحابته ، ثم الأولياء والعارفين من صالح أمته ، وقد روى أبو داوود انه قال : (لا يَشْكُرُ الله مَنْ لا يَشْكُرُ النّاس).

ويجب التنبيه إلى أن التربيّة الفرديّة الروحيّة ، التي تستهدف الوصول إلى الحقيقة الإلهية ، أو المعرفة الربانيّة ، ويقع أثناءها الأمن والإستقرار ، وإصلاح الفرد والمجتمع بفضل ما تنتج من الأخلاق الفاضلة ، ليست بما نسمّيه في المدارس بالتربيّة الإسلامية ، إذ قد يوجد من يدرّس مادة التربيّة الإسلامية كمعلومات نظريّة ، وهو لا يصلّي.. فالجانب النظريّ الظاهري لا يقاس بالجانب العمليّ الواقعيّ ، كما لا يقاس الجانب الفكري بالجانب الروحيّ ، وكذلك يجب التّنبيه إلى أن الوصول إلى الحقيقة يعني الوصول إلى الصلاح المتكامل ، ما بين الظاهر والباطن ، وإصلاح الباطن يراد به إصلاح الظاهر ، عملا بقول الرسول صلى االله عليه وسلم :(أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ) والقلب يعبّر عن الباطن ، والجسد يعبّر عن الظاهر بمعنى أن من طهّر قلبه ، وصفت سريرته ، وصلح ما بينه وبين الله ، صلح كل ما يصدر منه من أقوال واعمال وأخلاق وسلوك ومعاملات... والصلاح بالمفهوم الإسلامي لا يتجزّأ ، كما رأينا في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلّم وصحابته ، والله تعالى يقول :(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )(54) الصالحون لعمارتها ، والقيام بشؤونها المختلفة : ماذيّا ومعنويّا ، وهو ما نحاول توضيحه في هذه الدراسة ، وإخراج الحقيقة الإسلاميّة ، التي يعيشها أصحاب القلوب الطيّبة الطاهرة من تصوّرات خاطئة.

**    **      **
47 - سورة الفرقان:44
48 - سورة الرعد :28
49 - سورة الفتح : 4
50 - سورة آل عمران : 110
51- سورة الأنفال : 63
52 -سورة الحشر : 14
53 - سورة الرعد : 11
54 - سورة الأنبياء: 105


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية