مناجاته وحكمه :
"حسبي الله، آمنت بالله، رضيت بـالله، توكّلت على الله، لا قوة إلاّ بالله، يا من وسع كرسيّه السماوات والأرض، ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم، أسألك الإيمان بحفظك إيمانا يسكن به قلبي، من همّ الرزق، وخوف الخلق، وأقرب منّي بقدرتك قربا تمحق به عنّي كلّ حجاب محقته عن إبراهيم خليلـك، فلم يحتج لجبريل رسولك ولا لسؤاله منك، وحجبته بذلك عن نار عدوّك، وكيف لا يحجب عن مضرّة الأعداء من غيّبته عن منفعة الأحياء ؟، كلاّ أنّي أسألك أن تغيّبني بقربك منّي حتى لا أرى ولا أحسّ بقرب شيء ولا ببعده عنّي، إنّك على كل شيء قدير".
وقد كان من حكمه في آفات العزلة في الخواص، فقال رضي الله عنه:اعلم أنّ آفاتها في خواصّهم أيضا أربعة:( الاستئناس بالوسواس، والتحدّث والرجوع إلى الناس، والتجديد في الوقت وهو من إمارات الإفلاس، وملاقاة هواتف الحقّ على زعمه بالمعهود من الحواس )، ولكلّ آفة سبيل في الجادّ بالرّد إلى أصل التوحيد والمعرفة والحمل على سبيل الاستقامة، فإذا عرض لك عارض من جهة التعلّق بالأسباب والركون إلى الجهة المخصوصة في الاكتساب، فأرجعها إلى أصل المعرفة بالسوابق فيما قسم لها أو جرى عليها،وقل لها:اتّخذت عهدا له عبدا أنّك ترزقني إلاّ بهذا السبب أو من هذه الجهة، وضيّق عليها بالمعرفة، وأغرقها في بحر التوحيد، وقل:ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.
ولذلك قالوا:غرّق الدنيا في بحر التوحيد قبل أن تغرّقك، وإن عرض لك عارض من جهة اكتفاء العقل بما حصل له من علم أو عمل أو نور أو هدى أو خطاب بنجوى فلا تغفل عن السابقة والخاتمة، ولا بدّ من فعل الواحد المختار الذي يفعل ما يشاء ولا يبالي بحسنة المقبل ولا بسيّئة المدبر، وإن عرض لك عارض خطرات العدوّ الصادرة عن المراد، والمراد بالعبوديّة المحضة وجود الحقّ بلا سبب من الخلق، فالله تعالى يقتضي منك أن تكون له عبدا وتحبّ أنت أن يكون لك ربّا، فإذا كنت له عبدا من حيث يرضى كان لك ربّا من حيث ترضى، ولا يدعك لغيره من طريق الحقائق، فكيف بالأماني ؟،
فاعلم هذا الباب وأتقنه جدا، واستعن بالله واصبر:( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) / الأنفال آية / 46.
فإذا كنت في درجة الخواص من القاصدين، وعرض لك في معرفتك الوسواس بما يشبه العلم من طريق الإلهام والكشف من حيث التوّهم فلا تقبل وارجع إلى الحقّ المقطوع به من كتاب الله أو سنّة رسول الله.
واعلم أنّ الذي عارضك لو كان حقّا في نفسه وأعرضت عنه إلى حقّ بكتاب الله أو سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لما كان عليك عيب في ذلك، لأنّك تقول إنّ الله قد ضمن لك العصمة من جانب الكتاب والسنّة، ولم يضمنها في جانب الكشف، فكيف ذلــك؟،
ولو قلت ذلك عن طريق الإلهام لم تقبله إلاّ بالعرض على الكتاب والسنّة، فإذا لم تقبله إلاّ بهما فما بالك تأنس بالوسواس المتوهمة، واحفظ هذا الباب حتّى تكون على بينّة من ربّك:( ويتلوه شاهد منه) / هود آية / 17.
والشاهد ذلك، والبينّة لا خطأ معها ولا إشكال، والحمد لله، وإذا عرض لك فيها عارض التحدّث بالرجوع إلى الناس لتعرض عليهم ما أنت فيه وأنت معهم لم تخرج عنهم بشيء، ولا تغتّر باعتزال بدنك والقلب معهم فاهرب إلى الله، فإنّ من هرب إلى الله آواه الله، وصفة الهروب إلى الله تعالى الكراهة لجانبهم، والمحبّة لجانب الله سبحانه باللجوء والاعتصام به:( وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )/ آل عمران آية / 101.
وإذا عرض لك عارض التجديد فجاهده بالعوارض الممكنة في العلم الحائل عن ذلك مما يجوز أن يكون، واصرف همّتك إلى الله بالتقوى كي يجعل لك من ذلك مخرجا ويرزقك من حيث لا تحتسب، فإنّ جاذبتك هواتف الحقّ، وآفاتها الاستشهاد بالمحسوسات على الحقائق المغيّبات، فلا تردّها إلى ذلك فتكون من الجاهلين، ولا تدخل في شيء من ذلك بعقلك، وكن عند ورودها كما كنت قبل ظهورها حتى يتولّى الحقّ بيانها وإيضاحها، ويتولّى هداك:( وهو يتولّى الصالحين ) / الأعراف آية / 196.
ومن حكمه رضي الله عنه:كلّ علم تسبق إليك فيه الخواطر، وتتبعها الصور وتميل إليه النفس، وتلتذّ به الطبيعة فارم به وإن كان حقّا، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله، واقتد به وبالخلفاء والصحابة والتابعين من بعده، وهداية الأئمة المربّين من الهوى ومتابعته، تسلم من الشكوك والظنون والأوهام، والدعاوي الكاذبة المضلّة عن الهدى وحقائقه، وماذا عليك أن تكون عبد الله ولا علم ولا عمل وحسبك من العلم العمل بالوحدانيّة، ومن العمل محبّة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ومحبّة الصحابة، واعتقاد الحقّ للجماعة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الساعة، فقال:( ما أعددت لها، قال:ما أعددت لها من شيء وقال سفيان مرّة:ما أعددت لها كثير شيء ولكنّي أحبّ الله ورسوله، قال المرء مع من أحـبّ وقال سفيان مرة أخرى: أنت مع من أحببت ) رواه الإمام أحمد في مسنده.
ومن حكمه رضي الله عنه :
مجالسة الأكابر بأربع أوصاف :
- بالتخلّي عن أضدادهم، والميل والمحبّة والتخصيص لهم.
- إلقاء السلم بين أيديهم وترك ما تهوى لما يهوون.
- إيثار أقوالهم وأفعالهم، وترك التجسّس على عقائدهم.
- تعلّق الهمّة بما تعلقت به همّتهم بشرط الموافقة لهم في أفعالهم.
وقال رضي الله عنه:إذا جالست العلماء فجالسهم بالعلوم المنقولة والروايات الصحيحة، إمّا أن تفيدهم، وإمّا أن تستفيد منهم، وذلك غاية الربح معهم .
وإذا جالست العبّاد والزّهاد فاجلس معهم على بساط الزهد والعبادة، وحلّ لهم ما استمروه، وسهّل عليهم ما استوعروه، وذوّقهم من المعرفة ما لم يذوقوه .
وإذا جالست العبّاد الصدّيقين ففارق ما تعلم، ولا تنسب لما تعمل تظفر بالعلم المكنون،وبفوائد أجرها غير ممنون.
آداب الحضرة ثلاثة:
دوام النظر، وإلقاء السمع، والتوطين لما يرد من الحكم.
وقال رضي الله عنه:أربعة آداب إذا خلا الفقير المتجرّد منها فاجعله والتراب سواء: الرحمة للأصاغر، والحرمة للأكابر، والإنصاف من النفس، وترك الانتصاف لها،
وأربعة آداب إذا خلا الفقير المتسبّب منها فلا تعبأن به وإن كان أحدهم أعلم البرّية:مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الفاقة، ومواظبة الخمس في الجماعة.
وقال رضي الله عنه:إذا كانت لك حاجة وأردت أن تقضي حاجتك فأثبت الملك والقدرة والعلم والإرادة والمشيئة لله تعالى، واجعل فقرك إليه وحاجتك عنده، وأحذرّك أن يمتدّ بصر قلبك إلى غير الله تعالى فتحجب عن الله، بل فوّض أمرك إليه، ولا تفرح ولا تحزن ولا تخف ولا ترج ولا تذلّ، والمؤمن لا يذلّ نفسه، وقل:بسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وقال رضي الله عنه:أفضل ما يسأل العبد من الله تعالى خيرات الدين، ففي خيرات الدين خيرات الآخرة، وفي خيرات الآخرة خيرات الدنيا، وفي خيرات الدنيا ظهور خصائص الأولياء، وخصائص الأولياء أربعة أوصاف:( العبوديّة، ونعوت الربوبيّة، والإشراف على ما كان وما يكون، والدخول على الله في كلّ يوم سبعين مرّة والخروج كذلك )، فتكسى في كلّ مرّة حللا من الأنوار والتقريب.
ومن حكمه رضي الله عنه في الطاعات:لا تؤخر طاعة وقت لوقت فتعاقب بفوتها أو بفوت غيرها أو مثلها جزاء لما كفر من ذلك الوقت، فإنّ لكلّ وقت سهما في العبوديّة يقتضيه الحقّ منك بحكم الربوبيّـة، فقلت في نفسي:قد أخرّ الصدّيق الوتر إلى آخر الليل، فإذا هو يصوت في النوم:تلك عادة جارية وسنّة ثابتة ألزمه الله إيّاها مع المحافظة عليها، فأنّى لك بها مع الميل إلى الراحات، والتمتّع بالشهوات هيهات، والدخول في أنواع المخالفات، والغفلة عن المشاهدات، هيهات، فقلت في نفسي:أتدبير أم رفض ؟، فقال:بل تدبير يقتضي الأدب والتنبيه لما أغفل، وهي وصيّة إليك ووصيّة منك لعباده الصالحين، فتنبه لها ولا تكن من الغافلين.
وقال رضي الله عنه:ما الّذي استفدت من طاعتي، وما الذي استفدت من معصيتي؟، فقلت:استفدت من الطاعة العلم الزائد والنور النافذ والمحبّة، واستفدت من المعصيّة الغمّ والحزن والخوف والرجاء.
وقال رضي الله عنه في بعض الأخيار:من أطاعني في كلّ شيء أطعته في كلّ شيء، قال كأنّه يقول : من أطاعني في كلّ شيء بهجرانه لكلّ شيء أطعته في كلّ شيء بأن أتجلّى له في كلّ شيء حتى يراني كأنّي كلّ شيء، هذه الطاعة والمشاهدة في حقّ العوام من الصالحين.
وأمّا الخواص من الصدّيقين فطاعتهم باليأس منهم بإقبالهم على كلّ شيء لحسن إرادة مولاهم في كلّ شيء، فكأنّه يقول:من أطاعني بكلّ شيء بإقباله على كلّ شيء لحسن إرادتي كلّ شيء أطعته في كلّ شيء بأن أتجلّى له عند كلّ شيء حتى يراني أقرب إليه من كلّ شيء.
ومن حكمه رضي الله عنه في التوحيد:
التوحيد سرّ الله، والصدق سيف الله، ومدد السيف بسم الله، وترجمته:ما شاء الله كان وما شاء لم يكن، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وقال رضي الله عنه:أبواب الحقّ أربعة:التوحيد، والمحبّة، والإيمان، والرضا.
وقال رضي الله عنه:رأيت يقال لي:من تعلّق بأسماء الله من جهة المسمّيات فالشرك موطنه، فكيف من تعلّق بأسماء نفسه ؟ أين أنت من التوحيد المجرّد عن التعلّق بالله وبالخلق، وكلّ اسم يستدعي به نعمة أو يستكفي به نعمة فهو حجاب عن الذات وعن التوحيد بالصفات، ومن أحاطت به صفة من صفاته ألجأته على الاستعانة بالأسماء والصفات، ولا تدع ما هو لك لما ليس لك، ولا تثمّن ما فضّل الله به غيرك، ولتكن عبوديتّك التسليم والقبول لما يؤتى، وحسن الظنّ بالله فيما تلقى، والاشتغال بما هو لك أولى:( ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ) / يوسف آية / 40،الروم آية / 30 .
وقال رضي الله عنه:من اتّقى الشرك في التوحيد والمحبّة في أوائل خطواته عزم الله له بالمدد العزيز في أواخر ما منّ به، ثمّ لا يحجب عن الله ولا يدخل عليه الخلل في عزائمه، ومن أبطأ عنه الأمر في أتعس الخطرات وأخذ منه الميل إلى أشخاص الشهوات بطأ عنه المدد على مقدار أوقات الفترات، هذا بيان من الله لأهل التيّقظ من الغفلات، قال الله تعالى:( ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها ) / الشمس آية / 7، 8 )،
فاتق الله في الشرك في التوحيد، واجتمع ولا تتفرق عنه بنقص ولا مزيد، فإيّاك والشرك في المحبّة بالميل إلى الشهوة:أي شهوة كانت، ومن كان عند الله خائفا وجلا مشفقا من الله في نعمائه، كان في أمن الله فيما يرد عليه من عظيم بلائه، ودليله من حديث طويل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:( تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدّة ) رواه الإمام أحمد في مسنده.
ومن حكمه رضي الله عنه في العبوديّة:
هي امتثال الأمـر، واجتناب النهي، ورفض الشهوات والمشيئات على الشهود والعيان، إنّ الله إذا أكرم عبدا في حركاته وسكناته نصب له العبوديّة لله ، وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديّته والحظوظ عنه مستورة، مع جرى ما قدّر له منها ولا يلتفت إليها كأنّه في معزل مشغول عنها .
وإذا أهان الله عبدا في حركاته وسكناته نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديّته، فهو يتقلّب في شهواته وعبوديّة الله عنه بمعزل، وإن كان يجري عليه كلّ شيء منها في الظاهر، وهذا باب في الولاية والإهانة.
وأمّا الصدّيقيّة العظمى والولاية الكبرى فالحظوظ والحقوق عند ذوي البصائر كلّها سواء، لأنّه بالله فيما يأخذ ويترك.
من كتاب أعلام في التراث الصوفيّ
الدكتور أحمد حسن شحاده الردايده