قال الله تعالى :" وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ".
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" من سمع صوت أهل التصوف فلا يؤمن دعائهم كتب عند الله من الغافلين" .(1)
وقد تكلم الناس في تحقيق هذا الاسم كثيرا ، وألفوا كتبا في ذلك . وقالت جماعة أن الصوفي يسمى بالصوفي لأنه يلبس ثياب الصوف ، وقالت جماعة أنهم سمّوا صوفية لأنهم في الصف الاول ، وقالت طائفة أنهم سمّوا كذلك لانهم يقولون أهل الصفة ، وقال آخرون أن هذا الإسم مشتق من الصفاء . ولكن هذا الإسم - على مقتضى اللغة - بعيد عن هذه المعانى .
والصفاء في الجملة محمود ، وضده الكدر ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها".(2)
واسم لطائف الأشياء : صفوها ، واسم أوضاعها ، كدرها ، فلما هذب أهل هذا الأمر أخلاقهم ومعاملاتهم ، وتبرأوا من آفات الطبيعة ، فإنهم سمّوا صوفيّة ، وهو اسم لهذه الطائفة من أسماء الأعلام ، لأن خطر أهله اجلّ من أن يمكن إخفاء معاملاتهم حتى يلزم لإسمهم اشتقاق .
وقد حجب الله عز وجلّ - في عصرنا هذا - أكثر الخلق عن هذه الطريقة وأهلها ، وأخفى لطائفها عن قلوبهم ، حتى ليظن جماعة ان هذه الرياضة هي مجرد صلاح الظاهر دون مشاهدة الباطن ، وتظن جماعة أخرى ان هذا الأمر حيلة ورسم بلا حقيقة وأصل ، الى حد أنهم ارتكبوا المنكر أمام أهل الهزل وعلماء الظاهر ، وفرحوا بإخفاء الأمر ، حتى قلدهم العوام ومحوا عن قلوبهم طلب صفاء الباطن ، ووضعوا مذهب السلف والصحابة على الرّف .
إن الصفا صفة الصديق إن أردت صوفيا على التحقيق
لأن الصفا أصلا وفرعا ، وأصله : انقطاع القلب عن الأغيار ، وفرعه : خلو اليد من الدنيا الغادرة . وهاتان صفتا الصديق الأكبر ابي بكر عبد الله ابن أبي قحافة رضي الله عنه ، لأنه كان إمام أهل هذه الطريقة ، فكان من انقطاع قلبه عن الأغيار ، أن كل الصحابة انكسرت قلوبهم برحلة النبي عليه السلام إلى الحضرة الأعلى والمكان المصفى ، وسلَّ عمر رضي الله عنه سيفه قائلا : " كل من يقول أن محمدا قد مات أقطع رأسه ، فخرج الصديق الأكبر وصاح قائلا : ألا من عبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن عبد رب محمد فإنه حي لا يموت ، ثم قرأ قول الله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ".
ذلك أن من يتعلق بفان يفنى ويصير تعبه كله هباء ، ومن يطلق روحه إلى حضرة الباقي فإنه حين تفنى النفس ، يبقى قائما بالبقاء .
فمن نظر إلى محمد بعين الآدمية ، فإنه حين رحل محمد عن الدنيا ، ذهب من قلبه تعظيم العبودية ورحل معه ، ومن نظر إليه بعين الحقيقة استوى لديه ذهابه ووجوده ، لأنه في حال البقاء رأى بقائه بالحق ، وفي حال الفناء رأى فناءه بالحق - فأعرض عن المحوَّل وأقبل على المحوِّل - فعظّمه بمقدار إكرام الحق له ، ولم يربط سويداء قلبه بأحد ، ولم يفتح سواد عينه على الخلق ، فقد قيل : " من نظر إلى الخلق هلك ، ومن رجع إلى الحق ملك "،لأن النظر إلى الخلق علامة الهلك ،والرجوع إلى الحق علامة الملك .
أما خلو يده من الدنيا الغدارة ، فهو أنه أعطى كل ما كان يملك من مال ومنال ومآل ، وارتدى الكليم ، وجاء إلى النبي عليه السلام فقال فقال له النبي عليه السلام : " ما خلفت لعيالك ؟ فقال الله ورسوله " (3) فلما تحرر قلبه من التعلق بصفو الدنيا ، أخلى يده من كدرها .
وهذا كله صفة الصوفي الصادق ، وإنكار هذا كله إنكار للحق ، ومكابرة في العيان .
** ** **
هوامش
1 - لا يوجد له سند .
2 - ورد في الرسالة عن أبي جحفة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال :"ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر ، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم"( الرسالة : ج 2 ص 550).
3 - رواه الترمذي عن عمر.
كشف المحجوب للهجويري