معنى الطريقة والحقيقة
الشريعة اسم لمجموع الأحكام التكليفية وهي تحيط بالأعمال الظاهرة والباطنة جميعا وكانوا يرون الفقه مرادفا لها لدى المتقدمين كما أثر عن الإمام أبي حنيفة في التعريف بالفقه (معرفة النفس ما لها وما عليها) ثم جاء المتأخرون فأصبح في مصطلحهم العنصر من الشريعة الذي يخص الأعمال الظاهرة فقها وأما ما يخص الأعمال الباطنة من شعب الشريعة فصار تصوفا. إنه يقال لطرق هذه الأعمال الباطنة طريقة ثم ما يتولد من الصفاء والانجلاء في القلب لصلاح هذه الأعمال الباطنة يتكشف به للقلب بعض الحقائق الكونية المتعلقة بالأعيان والأعراض وعلى الأخص الأعمال الحسنة والحقائق الإلهية من صفاتية وذاتية وعلى الأخص المعاملة التي بين الله وبين العبد ويقال لهذه المكشوفات حقيقة ويسمى الانكشاف معرفة ويدعى صاحب الانكشاف محققا وعارفا.
فجميع هذه الأمور تبع للشريعة وأما ما شاع عند العامة من أن الشريعة إنما تدعى بها الأعمال الظاهرة والحقيقة تختص بالأعمال الباطنة فليس بمأثور عن أي رجل عالم وليس مفهومه عند العامة بسديد كذلك إذ هو اعتقاد لتضاد الظاهر والباطن(1).
من أقوال العلماء والعارفين في معنى الطريقة والحقيقة
قال الإمام الرفاعي قدس الله سره: الطريقة الشريعة والشريعة الطريقة والفرق بينهما لفظي والمادة والمعنى والنتيجة واحدة.
قال الإمام ابن عابدين رحمه الله تعالى : ( الطريقة هي السيرة المختصة بالسالكين من قطع المنازل والترقي في المقامات) وقال في الصفحة التي تليها (فالحقيقة هي مشاهد الربوبية بالقلب ويقال: هي سر معنوي لا حدَّ له ولا جهة والطريقة والشريعة متلازمة لأن الطريق إلى الله تعالى لها ظاهر وباطن فظاهرها الشريعة والطريقة وباطنها الحقيقة فبطون الحقيقة هي الشريعة والطريقة كبطون الزبد في لبنه ولا يظفر من اللبن بزبده بدون خضه والمراد من الثلاثة (الشريعة والطريقة والحقيقة) إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد(2).
قال صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف ، ويقال: علم التصوف علم الحقيقة أيضا وهو علم الطريقة أي تزكية النفس عن الأخلاق الردية وتصفية القلب عن الأغراض الدنية وعلم الشريعة بلا علم الحقيقة عاطل وعلم الحقيقة بلا علم الشريعة باطل علم الشريعة وما يتعلق بإصلاح الظاهر بمنزلة العلم بلوازم الحج وعلم الطريقة بإصلاح الباطن بمنزلة العلم بالمنازل وعقبات الطريق فكما أن مجرد علم اللوازم ومجرد علم المنازل لا يكفيان في الحج الصوري بدون إعداد اللوازم وسلوك المنازل ومجرد علم المنازل لا يكفيان في الحج الصوري بدون إعداد اللوازم وسلوك المنازل كذلك مجرد العلم بأحكام الشريعة وآداب الطريقة لا يكفيان في الحج المعنوي بدون العمل بموجبيهما(3).
- قال الشيخ عبدالله اليافعي رحمه الله تعالى : ( إن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية ولها طريقة هي عزائم الشريعة فمن سلك الطريق وصل إلى الحقيقة فالحقيقة نهاية عزائم الشريعة ونهاية الشيء غير مخالفة له فالحقيقة غير مخالفة لعزائم الشريعة)(4).
- قال الحافظ محمد صديق الغماري رحمه الله تعالى : ( أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما بينها واحدا واحدا دينا بقوله (فإنه جبريل اتاكم يعلمكم دينكم)(5) وهو الإسلام والإيمان والإحسان فالإسلام طاعة وعبادة والإيمان نور وعقيدة والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك..) ثم قال رحمه الله تعالى : ( فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان)(6).
- قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى : ( كل إنسان وصل إلى الله بطريق من الطرق أو صيغة من الصيغ يعتقد أن الطريق الذي سلكه إلى الله هو أقصر الطرق ولذلك اختلف الناس لأن وسائل عبادة الله متعددة فإذا دخل إنسان من باب وطريق وأحس أنه نقله وأوصله بادر إلى نقله لمن يحب).
ومن هنا فإن معنى أن هناك طرقا صوفية هو أن أناسا وصلوا إلى الصفاء من الله سبحانه وتعالى وجاءتهم الإشراقات والعلاقات التي تدل على ذلك في ذواتهم فعلموا ان الطريق الذي سلكوا فيه إلى الله صحيح وكلما زادوا في العبادة زاد الله في العطاء(7) وبعد هذا نرى من يتحامل على السادة الصوفية ويتهمهم زورا وبهتانا بأنهم يهتمون بالحقيقة فقط ويهملون جانب الشريعة فهذا كله افتراء باطل ويشهد على بطلانه كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتاويه حيث قال متحدثا عن تمسك السادة الصوفية بالكتاب والسنة : ( فاما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن ادهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد بن محمد وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ حماد والشيخ أبي البيان وغيرهم من المتأخرين فهؤلاء لا يسوغون للسالك لو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير في كلامهم)(8).
وفيما يلي نورد بعض أقوال السادة الصوفية التي تدل على تمسكهم بالكتاب والسنة .
- قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : (مذهبنا مقيد بأصول الكتاب والسنة).
-وقال أيضا : (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه(9). وذكر رجل عنده المعرفة فقال: (أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات (الأعمال) من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل ) فقال الجنيد رحمه الله تعالى : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال الصالحة التكليفية وهو عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى واليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها(10).
- قال الشيخ سهل بن عبدالله التستري رحمه الله تعالى : (أصولنا سبعة أشياء التمسك بكتاب الله تعالى والاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام والتوبة وأداء الحقوق)(11).
- وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى : ( كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة طِر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ).
- وقال أيضا: ( ترك العبادات المفروضة زندقة وارتكاب المحظورات معصية ولا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال)(12).
- وقال الشيخ عبدالوهاب الشعراني رحمه الله تعالى : (إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر فيحتاج سالكها إلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون)(13).
- وقال ابو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى : ( إذا عارض كشفك الصحيح الكتاب والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في الكشف والإلهام)(14).
- وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى : ( كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل)(15).
- وقال ابو الحسن الوراق رحمه الله تعالى : ( لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم في شرائعه ومن جعل الطرق إلى الوصول من غير الاقتداء يضل من حيث ظن انه مهتد)(16).
- وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى : ( لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة)(17).
- وقال رحمه الله تعالى في الصوفي: ( هو الذي يأخذ كتاب الله بيمينه وسنة رسوله بشماله وينظر بإحدى عينيه إلى الجنة وبالأخرى إلى النار ويأتزر بالدنيا ويرتدي بالآخرة ويلبي من بينهما للمولى : لبيك اللهم لبيك)(18).
- وقال الشيخ إبراهيم بن محمد النصر أباذي رحمه الله تعالى : (أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع وتعظيم الأخلاق الجميلة والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب ارخص والتأويلات وما ضل أحد في هذا الطريق إلا بفساد الابتداء فإن فساد الابتداء يؤثر في الانتهاء)(19).
- وقال الشيخ احمد زروق رحمه الله تعالى : في قواعده (وكل شيخ لم يظهر بالسنة فلا يصح اتباعه لعدم تحقق حاله ، وإن صح في نفسه وظهر عليه ألف ألف كرامة من أمره )(20).
- وقال ايضا : ( لا تصوف إلا بفقه إذ لا تعرف احكام الله الظاهرة إلا منه ولا فقه إلا بتصوف إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه لله تعالى ولا هما (التصوف والفقه) إلا بإيمان إذ لا يصح واحد منهما دونه فلزم الجميع لتلازمها في الحكم كتلازم الأجسام للأرواح ولا وجود لها إلا فيها كما لا حياة إلا بها فافهم)(21).
ولقد جمع علماء الشريعة الإسلامية من الفقهاء والمحدثين بين الشريعة والطريقة والحقيقة مقتفين بذلك أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ذكر صاحب الدر المختار: أن أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى قال: ( أنا أخذت هذه الطريقة من أبي القاسم النصر آباذي وقال أبو القاسم : أنا أخذتها من الشبلي وهو من السري السقطي وهو من معروف الكرخي وهو من داود الطائي وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه وكل منهم اثنى عليه وأقر بفضله... ) ثم قال صاحب الدر معلقا: (فيا عجبا لك يا أخي! ألم تكن لك أسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار؟ أكانوا متهمين في هذا الإقرار والافتخار وهم أئمة هذه الطريقة وأرباب الشريعة والحقيقة؟ ومن بعدهم في هذا الأمر فلهم تبع وكل ما خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع)(22).
وقال ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته معلقا على كلام صاحب الدر السابق في حديثه عن ابي حنيفة رحمه الله تعالى : ( هو فارس هذا الميدان فإن مبنى علم الحقيقة على العلم والعمل وتصفية النفس وقد وصفه بذلك عامة السلف فقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في حقه: إنه كان من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه احد ولقد ضرب بالسياط ليلي القضاء فلم يفعل.
وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى : ليس احد احق أن يقتدى به من أبي حنيفة لأنه كان إماما تقيا نقيا ورعا عالما فقيها كشف العلم كشفا لم يكشفه أحد ببصر وفهم وفطنة وتقى: وقال الثوري لمن قال له: جئت من عند أبي حنيفة : لقد جئت من عند أعبد أهل الأرض(23).
فإن قيل: لو كان التصوف امرا مشروعا لوضع فيه الأئمة المجتهدون كتبا!!
وفي الجواب على ذلك يقول الإمام الشعراني رحمه الله تعالى : ( إنما لم يضع المجتهدون في ذلك كتابا لقلة الأمراض في أهل عصرهم وكثرة سلامتهم من الرياء والنفاق ثم بتقدير عدم سلامة أهل عصرهم من ذلك فكان ذلك في بعض أناس قليلين لا يكاد يظهر لهم عيب وكان معظم همة المجتهدين إذ ذاك إنما هي في جمع الأدلة المنتشرة في المدائن والثغور مع أئمة التابعين وتابعيهم التي هي مادة كل علم وبها تعرف موازين جميع الأحكام فكان ذلك اهم من الاشتغال بمناقشة بعض أناس في أعمالهم القلبية التي لا يظهر بها شعار الدين).
ولا يقول عاقل قط : إن مثل الإمام أبي حنيفة أو مالك او الشافعي أو احمد رضي الله عنهم يعلم أحدهم من نفسه رياء أو حسدا أو نفاقا ثم لا يجاهد نفسه ولا يناقشها أبدا ولولا أنهم يعلمون سلامتهم من تلك الآفات والأمراض لقدَّموا الاشتغال بعلاجها على كل علم(24).
الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية
***
(1) بين التصوف والحياة ص (221- 222).
(2) حاشية ابن عابدين (3/303).
(3) كشف الظنون (1/413).
(4) نشر المحاسن الغالية (1/154).
(5) جزء من حديث اخرجه مسلم (8) وأبو داود (2613) والترمذي (4695) والنسائي (8/97).
(6) الانتصار لطريق الصوفية ص (6).
(7) أصول الوصول ص 337 ، 3387.
(8) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/516 - 517).
(9) طبقات الصوفية للسلمي ص (159).
(10) الرسالة القشيرية ص 22.
(11) طبقات الصوفية للسملي ص 210.
(12) الفتح الرباني ص (29).
(13) لطائف المنن والأخلاق (1/2).
(14) إيقاظ الهمم (2/302 - 303).
(15) الرسالة القشيرية ص 27.
(16) طبقات الصوفية ص 300.
(17) الرسالة القشيرية ص 16.
(18) شطحات الصوفية ص 96.
(19) طبقات الصوفية ص 488.
(20) قواعد التصوف للشيخ احمد زروق ص 76.
(21) قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق قاعدة (3) ص 3.
(22) الدر المختار (1/43).
(23) حاشية ابن عابدين (1/43).
(24) لطائف المنن والأخلاق (1/25 - 26).