قلت: وهذا هو التوحيد الخاص، أعني توحيد أهل الشهود والعيان. ثم قال: (وأصوله خمسة أشياء: رفع الحدث، وإثبات القدم، وهجران الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل) . هـ. قلت: قوله: (وهجران الإخوان) ، يعني:غير من يستعين بهم على السير، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات:
الأولى: توحيد العامة: وهو الذي يعصم النفس والمال، وينجو به من الخلود في النار، وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد.
الثانية: توحيد الخاصة: وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال، فإن ذلك حاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاصة يقين في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله، والتوكل عليه وحده، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف أحدا سواه، إذ ليس يرى فاعلا إلا الله، فيطرح الأسباب، وينبذ الأرباب.
الدرجة الثالثة: ألا يرى في الوجود إلا الله، ولا يشهد معه سواه، فيغيب عن النظر إلى الأكوان في شهود المكون، وهذا مقام الفناء، فإن رد إلى شهود الأثر بالله سمي مقام البقاء.
وفي التحقيق أنهما مقامان مقام أهل الدليل والبرهان، وهو المذكور في الآية، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد، ومقام أهل الشهود والعيان، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فعوضهم الله في الدنيا جنة المعارف، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف.
(أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان) لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحق تعالى عن أن يحتاج إلى دليل، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف ؟ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه ؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له ؟ متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه ؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟