الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين: الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين: (لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر)، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية:
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي
وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد: " رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت: اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي: قل: وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم".
تفسير ابن عجيبة