آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(19)

هذا آخر الباب الثاني وحاصلها آداب العارف وعلاماته :
فالآداب ثمانية والعلامات أربع ، الرجوع إليه في كل شيء والإعتماد عليه في كل حال ، والغيبة فيه عن كل شيء ، والإستدلال به على كل شيء ، وإتساع أرزاق العلوم ، وفتح مخازن الفهوم ، والوصل إلى مواجهة الأنوار والغيبة عنها بشهود الواحد القهار. ثم افتتح الباب الثالث بذكر التخلية والتحلية فقال وقال رضي الله عنه : 

"تشَوُّفُك إلى ما بَطُنَ فيك من العيوب خيرٌ مِن تشوُّفِك إلى ما حُجِبَ عنك من الغيوب".

تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب ، كالحسد والكبر ، وحب الجاه والرياسة ، وهم الرزق وخوف الفقر ، وطلب الخصوصية وغير ذلك من العيوب ، والبحث عنها والسعي في التخلص منها ، أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب ، كالإطلاع على أسرار العباد ، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلية ، وكالأطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له ، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب ، سبب في حياة قلبك ، وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، والإطلاع على الغيوب إنما هو فضول ، وقد يكون سبباً في هلاك النفس ، كإتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس ، وسيأتي للشيخ :"من أطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان إطلاعه فتنة عليه وسبباً يجر الوبال إليه" واعلم أن العيوب ثلاثة : تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب ، كالحسد والكبر ، وحب الجاه والرياسة ، وهم الرزق وخوف الفقر ، وطلب الخصوصية وغير ذلك من العيوب ، والبحث عنها والسعي في التخلص منها ، أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب ، كالإطلاع على أسرار العباد ، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلية ، وكالأطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له ، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب ، سبب في حياة قلبك ، وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، والإطلاع على الغيوب إنما هو فضول ، وقد يكون سبباً في هلاك النفس ، كإتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس ، وسيأتي للشيخ :"من أطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان إطلاعه فتنة عليه وسبباً يجر الوبال إليه".
واعلم أن العيوب ثلاثة:
عيوب النفس
وعيوب القلب
وعيوب الروح 
- فعيوب النفس : تعلقها بالشهوات الجسمانية ، كطيب المآكل والمشارب ، والملابس والمراكب ، والمساكن والمناكح وشبه ذلك . 
- وعيوب القلب : تعلقه بالشهوات القلبية ، كحب الجاه الرياسة ، والعز والكبر ، والحسد ، والحقد وحب المنزلة ، والخصوصية وشبه ذلك . 
- وعيوب الروح : تعلقها بالحظوظ الباطنية ، كطلب الكرامات ، والمقامات ، والقصور ، و الحور ، و غير ذلك . 
فتشوف المريد إلى شيء من ذلك كله قادح في عبوديته ، مانع له من القيام بحقوق ربوبيته ، فأشتغاله بالبحث عن عيوبه النفسانية والقلبية والروحانية ، وسعيه في التطهير من جميع ذلك ، أولى من تشوفه إلى ما حجب عنه من علم الغيوب . 
ولما ذكر التخلية ذكر ثمرتها ، وهي التحلية بالمعرفة ، إذ ما منع منها ، إلا تشوف النفس أو القلب أو الروح إلى حظوظها الوهمية ، فقال : 

"الحقُّ ليسَ بمحجوب ، وإنما المحجوب أنتَ عن النظرِ إليه ، إذ لو حَجبهُ شيءٌ لستره ما يحجبه ، ولو كان له ساترٌ لكان لوجوده حاصر ، وكلُّ حاصرٍ لشيءٍ فهو له قاهرٌ ، "وهوَ القَاهِرُُ فَوْقَ عِبَادِه".

الحق تعالى محال في حقه الحجاب ، فلا يحجبه شيء لأنه ظهر بكل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء ، فلا ظاهر معه ، ولا موجود في الحقيقة سواه ، فهو ليس بمحجوب عنك ، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه ، لإعتقادك الغيرية وتعلق قلبك بالأمور الحسية ، فلو تعلق قلبك بطلب المولى وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى ، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان ، وصار ما كان محجوباً عنك بالوهم في معد الشهود والعيان .
فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون ، وكلهم في البحر ولا يشعرون ، وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول :" والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم والوهم أمر عدمي لا حقيقة له " وسيأتي للشيخ :" ما حجبك عن الحق وجود موجود معه إذ لا شيء معه وإنما حجبك عنه توهم موجود معه " إذ لو حجبه تعالى شيء حسي ، لستره ذلك الحجاب ، ولو كان له ساتر حسي لكان لوجوده حاصر ، إذ محال أن يستره من جميع الوجوه ولا يحصره ، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ، كيف والله تعالى يقول :" وهو القاهر فوق عباده " أي لأنهم في قبضته وتحت تصريف قدرته ، وتخصيص إرادته ومشيئته ، والفوقية عبارة عن رفعة الجلال والمكانة ، لا المكان كما يقال :السلطان فوق الوزير ، والسيد فوق عبده ، والمالك فوق المملوك ، وغير ذلك مما يثبت الكبرياء وينفي سماة الحدوث والله تعالى أعلم .
ولما كان حجاب الروح عن المعرفة ، أمراً وهمياً عدمياً لا حقيقة له، وهو مرضها بأوصاف البشرية ، فلو صحت لعرفت ، أشار إلى ذلك بقوله :

" اخرج من أوصاف بشريتك ، عن كل وصف مناقض لعبوديتك ، لتكون لنداء الحق مجيباً ، ومن حضرته قريباً ".

أوصاف البشرية هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية ، ومرجعها إلى أمرين :
الأول : تعلق القلب بأخلاق البهائم ،وهي شهوة البطن والفرج ،وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية ، قال الله تعالى :" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " .
الثاني : تخلقه بأخلاق الشياطين ، كالكبر والحسد ، والحقد والغضب، والحدة وهي القلق ، والبطر وهي خفة العقل ، والأشر وهو التكبر ،وحب الجاه والرياسة ، والمدح والقسوة ،والعطاء والفظاظة ، والغلظة وتعظيم الأغنياء ، واحتقار الفقراء ، وكخوف الفقر وهم الرزق ، والبخل والشح ، والرياء والعجب ، وغير ذلك مما لا يحصي حتى قال بعضهم :" للنفس من النقائص مالله من الكمالات " وقد ألف الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ، كتاباً في عيوب النفس وأدويتها ، ونظمه الشيخ زروق في نحو ثمانمائة بيت ، ومن ألقاه الله إلى شيخ التربية فلا يحتاج إلى شيء سوى الإستماع والإتباع ، فإذا خرج المريد من أخلاق البهائم ، تخلق بأخلاق الروحانيين ، كالزهد والورع ، والقناعة والعفة ، والغنى بالله والأنس به ، وإذا خرج من أخلاق الشياطين تخلق بأخلاق المؤمنين ، أو بأخلاق الملائكة كالتواضع وسلامة الصدور ، والحلم والسكينة والرزانة ،والطمأنينة والسهولة ، والليونة والخمول ، والإكتفاء بعلم الله ، والشفقة والرحمة ، وتعظيم الفقراء والمساكين ، وأهل النسبة وجميع الأمة ، والكرم والسخاء ، والجود والإخلاص ، والصدق والمراقبة ، والمشاهدة والمعرفة ، فإذا تخلق العبد بهذه الأخلاق وتحقق بها ذوقاً ، بعد أن تخلص من أضدادها ، كان عبداً خالصاً لمولاه ، حراً مما سواه ، وكان لندائه مجيباً ، ومن حضرته قريباً ، فإذا قال له ربه :" يا عبدي ، قال له يا رب " فكان صادقاً في إجابته لصدق عبوديته ، بخلاف ما إذا كان منهمكا في شهواته الظاهرة والباطنة ، كان عبداً لنفسه وشهواته ، فإذا قال : يا رب ، كان كاذباً ، إذ من أحب شيئاً فهو عبد له ، وهو لا يحب أن تكون عبداً لغيره ، وإذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ ، كان أيضاً قريباً من حضرة الحق بل عاطفاً فيها،إذ ما أخرجنا عن الحضرة إلا حب هذه الخيالات الوهمية،فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة.

واعلم أن هذه الأوصاف البشرية ، التي أحتجبت بها الحضرة إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر ، كالنفس والشيطان والدنيا ، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة ، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة ، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق وما ثم سواه،ولا حول ولا قوة إلا بالله. 
ثم إن هذه العيوب ، سبب بقائها في الإنسان ، بإعتبار الحكمة ، هي الغفلة عن البحث عنها ، وسبب الغفلة عن البحث عنها ، هو الرضا عن النفس ، إذ لو أساء ظنه بها لبحث عن مساويها ، فأستخرجها وتطهر منها ، فلذلك ، قال : 

"أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس "

إذ كل من رضي عن نفسه ، استحسن أحوالها ، وغطى مساويها، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة ، عدم الرضا منك عنها ،قلت : لأن من اتهم نفسه ، وأساء ظنه بها ، ونظر إليها بعين السخط ، بحث عن عيوبها واستخرج مساويها ، فابحث أيها المريد عن مساويك ، واتهم نفسك ولا تستحسن شيئاً من أحوالها ، فإنك إذا رضيت عنها ، واستحسنت أحوالها ، لدغتك وأنت لا تشعر ، وحجبتك عن الحضرة وأنت تنظر ،قال أبو حفص الحداد:"من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلي مكروهها في سائر أيامه مغروراً ومن نظر إلى نفسه بإستحسان شيء منها فقد أهلكها وكيف يصح لعاقل الرضى عن نفسه والكريم ابن الكريم إبن الكريم يقول وما أبريء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ".
وقال السري :" من عرف الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يروح ويغدو في لاش، والعاقل عن عيوبه فتاش " فابحث يا أخي عن عيوبك ، إن أردت نصح نفسك ، فإذا بحثت عن عيوبها ، وفضحت عوراتها ، تخلصت وتحررت ، وتحققت ودخلت الحضرة ، واتسعت لك النظرة واشتكت لك الفكرة ، وكان شيخ شيخنا يقول :"لعنة الله على من ظهرت له عورة فلم يفضحها " وكان أيضاً كثيراً ما يوصي بعدم المراقبة للناس ، وعدم المبالاة بهم ، إذ لا يتخلص من دقائق الرياء إلا بإسقاطهم من عينه ، وسقوطه هو من عينهم ، ومن أراد أن يتخلص فليصحب من تخلص ، ولذلك قال :

"ولإن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه"

إذ صحبة من لا يرضى عن نفسه خير محض لتحققه بالإخلاص ، فيسري ذلك في الصاحب ، حتى يتحلى بالإخلاص ، ويصير من جملة الخواص ، وصحبة من يرضى عن نفسه ، شر محض ولو كان أعلم أهل الأرض ، لأن الطباع تسرق الطباع ، إذ الجهل الذي يقرب للحضرة ، أحسن من العلم الذي يبعد عن الحضرة ، ولذلك قال بعض العارفين :" أشد الناس حجاباً عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد " لوقوفهم مع علمهم ،وعبادتهم وزهدهم ، والجهل الذي يوصل إلى الله علم على الحقيقة ، والعلم الذي يحجب عن الله جهل على الحقيقة ، ولذلك قال :

" فأي علم لعالم يرضى عن نفسه "

لأنه صار حجاباً له عن ربه ، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ،قلت : إذ بعدم الرضى عن نفسه ، بحث عنها وتخلص من رقها ، فصار عبداً حقيقة لله ، فحينئذ أحبه سيده وأصطفاه لحضرته ، وإجتباه لمحبته وأطلعه على مكنون علمه ، فكان أعلم خلقه ، والله تعالى أعلم .
وإذا تخلص العبد من حظوظه وأوصاف بشريته ، قرب من حضرة ربه لصحة قلبه وأشراقه بنور ربه ، ثم امتحى وجوده في وجود محبوبه ، وشهوده في شهود معبوده ، وإلى ذلك أشار بقوله :

" شعاع البصيرة يشهدك قربه منك ، وعين البصيرة تشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجوده لا عدمك ولا وجودك ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ".

البصيرة ناظر القلب ، كما أن البصر ناظر القالب ،فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية ، والبصر يرى المحسوسات الكثيفة الظلمانية الوهمية ، ثم البصيرة بإعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة على خمسة أقسام :
قسم فسد ناظرها ، فعميت فأنكرت نور الحق من أصله ، قال سيدي البوصيري :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سم
وهذه بصيرة الكفار ، قال تعالى : "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " وقسم صح ناظرها ، لكنها مسدودة لضعف ناظرها ، لمرض أصابه ، فهي تقر بالنور ، لكنها لا تقوى على مشاهدته ، ولا تشهد قربه منها ، ولا بعده عنها ، وهي لعامة المسلمين ، وقسم صح ناظرها وقوي شيئاً ما حتى قرب أن يفتح عينه ، لكن لشدة الشعاع ، لم يطق أن يفتح عينه ، فأدرك شعاع النور قريباً منه ، وهو لعامة المتوجهين ، ويسمى هذا المقام : "شعاع البصيرة "، وقسم قوي ناظرها ، ففتح عين بصيرته ، فأدرك النور محيطاً به ، حتى غاب عن نفسه ،بمشاهدة النور، وهذا لخاصة المتوجهين ، ويسمى هذا المقام :"عين البصيرة " وقسم صحت بصيرته ،وإشتد نورها ،فاتصل نورها بنور أصلها ، فلم تر إلا النور الأصلي ، وأنكرت أن يكون ثم شيء زائد على نور الأصل ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، ويسمى هذا ّ"حق البصيرة" ووجه تسميته بشعاع البصيرة ،لأن صاحبها ، لما كان يرى وجود الأكوان ، انطبعت في مرآة بصيرته ، فحجبته عن شهود النور من أصله ، لكن لما رقت كثافتها وتنورت دلائلها ،رأى شعاع النور من ورائها ،قريباً منه ، فأدرك الشعاع ولم يدرك النور ، وهذا هو نور الإيمان ، وهو مقام :"علم اليقين" ووجه تسمية عين البصيرة ، أن البصيرة لما صحت وقويت ، انفتحت عينها فرأت النور محيطاً ومتصلاً بها ، فسميت عين البصيرة ، لانفتاحها وإدراكها ما خفي على غيرها ،وهذا مقام :"عين اليقين" ووجه تسمية حق البصيرة ، أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله وغابت عن نور الفروع بنور الأصول ، سميت حق البصيرة لما أدركته من الحق ، وغابت عن شهود الخلق ،وهذا مقام :"حق اليقين" فشعاع البصيرة هو نور الإيمان لأهل المراقبة ، وعين البصيرة هو نور الأحسان لأهل المشاهدة ، وحق البصيرة هو نور الرسوخ والتمكين لأهل المكالمة ، أو تقول ، شعاع البصيرة هو نور علم اليقين ، وعين البصيرة هو نور عين اليقين ، وحق البصيرة هو نور حق اليقين ، فعلم اليقين لأهل الدليل والبرهان ، وعين اليقين لأهل الكشف والبيان ، وحق اليقين لأهل الشهود والعيان ، مثال ذلك ، كمن سمع بمكة مثلاً ولم يرها ، فهذا عنده علم اليقين ، فإذا أستشرف عليها ورآها ولم يدخلها فهو عين اليقين ، فإذا دخلها وتمكن فيها فهو حق اليقين ، وكذلك طالب الحق ، فما زال من وراء الحجاب فانياً في الأعمال ، فهو في علم اليقين ، فإذا أستشرف على الفناء في الذات ولم يتمكن من الفناء ، فهو عين اليقين ، فإذا رسخ وتمكن فهو في حق اليقين ، أو تقول شعاع البصيرة لأهل عالم الملك ، وعين البصيرة لأهل عالم الملكوت ، وحق البصيرة لأهل عالم الجبروت ، أو تقول شعاع البصيرة لأهل الفناء في الأعمال ،وعين البصيرة لأهل الفناء في الذات، وحق البصيرة لأهل الفناء في الفناء ، فشعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، أي يوجب لك شهود قرب نور الحق منك ،قال تعالى :"ولقد خلقنا الأنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "وقال تعالى :" وهو معكم أينا كنتم " وعين البصيرة يشهدك عدمك ، أي زوالك بزوال وهمك لوجوده ، أي وجود الحق ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، فإذا زال عنك الوهم وفنيت عن وجودك ، شهدت ربك بربك ، وهو علامة فتح البصيرة ، وعلاج السريرة. 
فظاهره ، أن عامة المسلمين ،عميت بصيرتهم ، والتحقيق هو ما تقدم من التفصيل وأنها مسدودة فقط مع صحة ناظرها ، بخلاف بصيرة الكفار، فإنها عمياء ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق وحده لا وجودك ،لأنك مفقود من أصلك ،ولا عدمك إذ لا يعدم إلا ما ثبت له وجود ، ولم يكن مع الله موجود كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، قال محيى الدين بن محمد بن علي بن العربي الحاتمي رضي الله عنه :" من شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل " قلت : ومن شهدهم بعين العدم فقد تمكن وصاله ، والله تعالى أعلم . 
ثم إذا تقرر انفراد الحق بالوجود ، فلا تتعد همتك إلى غيره ، إذ هو مفقود ، وإلى ذلك أشار بقوله في أول الباب الرابع ، وقال رضي الله عنه : 

"لا تتعد نية همتك إلى غيره ،فالكريم لا تتخطاه الآمال "

لا تتعد أي لا تتجاوز ونية الهمة قصدها الذي تتوجه به والهمة القوة المنبعثة في طلب المقاصد والآمال قصود القاصدين .
إذا تعلقت همتك أيها المريد ، بشيء تريد تحصيله ، فردها إلى الله ، ولا تتعلق بشيء سواه ، لأنه سبحانه كريم على الدوام ، ونعمه سَحَّاءُ على مر الليالي والأيام ، والكريم لا تتخطاه الآمال ، وهو يحب أن يسئل فيجيب السؤال ، وقد قالوا في تفسير إسمه تعالى الكريم :"هو الذي إذا سئل أعطى ولا يبالي كم أعطى ، ولا لمن أعطى ، وإذا رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى ، وإذا جفى عفا ، وإذا عاتب ما أستقصى ، فهذا من كمال كرمه وتمام إحسانه وأنعامه .
وإذا علمت كرمه وجوده وكماله وإحسانه ، فلا ترفع إلى غيره ما هو مورده عليك ، كما قال :

"لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك "

قد علمت أن ما سوى الحق خيال وهمي لا حقيقة لوجوده ، فإذا أنزل الله بك حاجة كفاقة أو شدة أو غير ذلك من العوارض ،فأنزلها بالله ، واجعلها تحت مشيئة الله ، وغب عنها في ذكر الله ، ولا تلتفت إلى ما سواه تعلقاً ولا تملقاً ، ففي الحديث :" من لم يسئل الله يغضب عليه" وقال أبو علي الدقاق :" من علامة المعرفة أن لا تسأل حوائجك كلها إلا من الله قَلَّتْ أو جَلتْ مثل موسى عليه السلام اشتاق إلى رؤيته ،فقال :" رب أرني أنظر إليك" واحتاج يوماً إلى رغيف ، فقال :"رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير " ثم تعجب ممن رفع أحكام الحق إلى غيره مع عجزه وضعفه ، فقال :

"فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً"

من قلة حياء الإنسان ، أن يرفع إلى غيره ما أنزله عليه الحق تعالى من أحكام قهره ، مع علمه تعالى بإحسانه وبره ، وعدم انفكاك لطفه عن قدره ، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :" أيست من نفع نفسي لنفسي فكيف لا أيأس من نفع غيري لها ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي" وقال بعض العارفين :"قيل لي في نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم ، لا تبدين فاقة فأضاعفها عليك ، مكافأة لسوء أدبك وخروجك إلى حد عبوديتك ، إنما أبتليتك بالفاقة لتفزع إلي منها ، وتتضرع بها لدي ، وتتوكل فيها علي ، سبكتك بالفاقة لتصير بها ذهباً خالصاً ، فلا تزيغن بعد السبك ، وسمتك بالفاقة وحكمت لنفسي بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري ، قطعت عنك مواد معونتي ، وحسمت أسبابك من أسبابي طرداً لك عن بابي ، فمن وكلته إلى ملك ومن وكلته إليه هلك" ، ثم بين وجه التعجب فقال :

" من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً".

من عجز عن إصلاح نفسه ، فكيف يقدر أن يصلح غيره ، ضعف الطالب والمطلوب ، قال بعضهم :" من اعتمد على غير الله ، فهو في غرور ، لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شيء سواه ، وهو الدائم القديم ، الذي لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم لك منه العطاء والفضل"ثم أن الإعتماد على الله ورفع الحوائج إليه ، والرجوع في كل النوازل إليه ، سببه حسن الظن به ، كما أشار إليه بقوله :
" إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسن ظنك به لأجل معاملته معك ، فهل عودك إلا حسناً ، وهل أسدى إليك إلا منناً ".

الناس في حسن الظن بالله على قسمين :
- خواص
- وعوام 
أما الخواص ، فحسن ظنهم بالله تعالى ، ناشىء عن شهود جماله ورؤية كماله ، فحسن ظنهم بالله لا ينقطع ، سواء واجههم بجماله أو بجلاله ، لأن اتصافه تعالى بالرحمة والرأفة والكرم والجود لا ينقطع ، فإذا تجلى لهم بجلاله أو قهريته علموا ما في طي ذلك من تمام نعمته وشمول رحمته ، فغلب عليهم شهود الرحمة والجمال ، فدام حسن ظنهم على كل حال . 
وأما العوام فحسن ظنهم بالله ، ناشيء عن شهود إحسانه وحسن معاملته وامتنانه ، فإذا نزلت بهم قهرية أو شدة ، نظروا إلى سالف أحسانه ، وحسن ما أسدي إليهم من حسن لطفه وامتنانه ، فقاسوا ما يأتي على ما مضى ، فتلقوا ما يرد عليهم بالقبول والرضى ، وقد يضعف هذا الظن بضعف النظر والتفكر ، ويقوى بقوتهما ، بخلاف الأول ، فإنه ناشيء عن شهود الوصف ، والوصف لا يتخلف ، والثاني ناشىء عن شهود الفعل وهو يتخلف ، فإن لم تقدر أيها المريد ، أن تحسن ظنك بالله ، لشهود وصفه بالرأفة والرحمة التي لا تتخلف ، فحسن ظنك به لوجود معاملته معك بلطفه ومننه ، فهل عودك الحق تعالى الاّ برا حسناً ولطفاً جميلاً ، وهل أسدي إليك أي أوصل إليك إلا مننا كبيرة ونعماً غزيرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أحبوا الله لما يغذيكم به من نعمه وأحبوني بحب الله" وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :"إنا لا نحب إلا الله ، ولا نحب معه شيئاً سواه . فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم : « النفس مجبولة على حب من أحسن إليها » فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله ، ولا نرى معه غيره ". وقال أيضاً رضي الله عنه :" قرأت ليلة ، قل أعوذ برب الناس إلى أن بلغت فيها من شر الوسواس ، فقيل لي شر الوسواس ، وسواس يدخل بينك وبين حبيبك ، يذكرك أفعالك السيئة ، وينسيك أفعالك الحسنة ، ويكثر عندك ذات الشمال ، ويقلل عندك ذات اليمين ، ليعدل بك عن حسن الظن بالله وكرمه ، إلى سوء الظن بالله ورسوله ، فاحذروا هذا الباب ، فقد أخذ منه خلق كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد" . 



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية