وإذا كان الحق تعالى ما عودك إلا الإحسان ، وما أسدى إليك إلا الإمتنان ، فمن العجب أن تتركه وتطلب ما سواه ، وإلى ذلك أشار بقوله :
( العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِمَّنْ يَهْرُبُ مِمَّنْ لا انْفِكاكَ لَهُ عَنْهُ، وَيَطْلُبُ ما لا بَقاءَ لَهُ مَعَهُ (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور)
ما لا انفكاك منه هو الحق تعالى ، وقضاؤه وقدره ، وما لا بقاء له هو الدنيا أو ما تدبره النفس وتقدره ، فمن أعجب العجائب أن يفر العبد من مولاه ويتوجه بالطلب لما سواه ، مع أنه لا أنفكاك له منه ، ولا محيد له عنه ، إذ لا وجود له إلا منه ، ولا قيام له إلا به ، فكيف يهرب منه بترك طلب معرفته ، وبالتقرب به بامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، ويطلب مالا بقاء له من حظوظ الدنيا الفانية ، التي أن لم تزل عنها في الحياة زالت عنك بالممات ، فاطلب ما يبقى دون ما يفنى ، أو تقول من العجب كل العجب أن يهرب العبد مما لا انفكاك له عن قدر الله وقضائه ويطلب مالا بقاء له من حظوظ تدبيره واختياره إذ كل ما تدبره وأبرمه فسخه القضاء وهدمه.
وهذا كله من عدم فتح البصيرة أو عماها ، ولذلك قال :( فإنها لا تعمى الأبصار ) عن إدراك الحس ، لأنها أدركته وحجبت به ولكن ( تعمى القلوب )عن إدراك المعنى ، فلا ترى إلا الحس ولا تحب إلا إياه ، ولا تطلب شيئاً سواه.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :"عمي البصيرة في ثلاث : "إرسال الجوارح في معاصي الله ، والطمع في خلق الله ، والتصنع بطاعة الله ".
ثم إذا طلبت الحق الذي لا انفكاك لك عنه ، ورحلت إليه فاطلب معرفة ذاته لا زخارف جناته ، إذ هي كون من مكوناته ، ولذلك قال :
(لا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إلى كَوْنٍ فَتَكونَ كَحِمارِ الرَّحى؛ يَسيرُ وَالمَكانُ الَّذي ارْتَحَلَ إلَيْهِ هُوَ الَّذي ارْتَحَلَ عَنْهُ. وَلكِنِ ارْحَلْ مِنْ الأَكْوان إلى المُكَوِّنِ، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
الرحيل من الكون إلى الكون ، هو الرحيل من السوى إلى طلب السوى ، وذلك كمن زهد في الدنيا وانقطع إلى الله يطلب بذلك راحة بدنه وإقبال الدنيا عليه. وكمن زهد فيها يطلب الخصوصية كإقبال الخلق والعز وتربية المهابة في قلوب الناس،أو زهد فيها يطلب الكرامة وخوارق العادات ، أو زهد فيها يطلب القصور والحور،فهذا كله رحيل من كون إلى كون ، فمثله كحمار الطاحونة يسير الليل والنهار،وهو في موضعه فالذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ، فمن كانت همته الحظوظ النفسانية فحاله حال حمار الساقية في السير دائم ، وهو في موضعه قائم يظن أنه قطع مسافة مما طلب . وما زاد إلا نقصاً مع تعب، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:"قف بباب واحد لا لتفتح لك الأبواب تفتح لك الأبواب وأخضع لسيد واحد لا لتخضع لك الرقاب تنخضع لك الرقاب قال تعالى:" وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ ".
فينبغي لك أيها المريد أن ترفع همتك إلى الملك المجيد ، فترحل من رؤية الأكوان إلى طلب شهود الملك الديان ، أو ترحل من الدليل والبرهان إلى رتبة الشهود والعيان ، وهو غاية القصد وبلوغ المنتهى ، "وأن إلى ربك المنتهى" ولا ترحل من كون إلى كون ، بأن تترك حظاً من حظوظ نفسك طلباً لحظ آخر فتكون كحمار الرحى الذي سار منه هو الذي عاد إليه ، وتشبيهه بالحمار دليل على بلادته وقلة فهمه ، إذ لو فهم عن الله لرحل عن حظوظ نفسه وهواه قاصداً الوصول إلى حضرة مولاه . فلا ترحل أيها المريد من كون مخلوق إلى كون مخلوق مثلك ، ولكن ارحل من الكون إلى المكون ، "وأن إلى ربك المنتهى" والرحيل إلى المكون يكون بثلاثة أمور :
- الأول قصر همتك عليه دون ما سواه حتى يطلع على قلبك فلا يجده محباً لسواه .
- الثاني الرجعى إليه بإقامة الحقوق والفرار من الحظوظ .
- الثالث دوام اللجاء إليه والإستعانة به والتوكل عليه والاستسلام لما يورده عليك .
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :(أربعة من كن فيه احتاج الخلق إليه وهو غني عن كل شيء :" المحبة لله ، والغنى بالله ، والصدق ، واليقين ، الصدق في العبودية ، واليقين في أحكام الربوبية ، "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ") .
ثم استدل على طلب رفع الهمة إلى الله مع الأعراض عما سواه بحديث الهجرة الذي في الصحيح فقال وأنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " .
الهجرة هي الإنتقال من وطن إلى وطن آخر بحيث يهجر الوطن الذي خرج منه ويسكن الوطن الذي انتقل إليه ، وهي هنا من ثلاثة أمور :
- من وطن المعصية إلى وطن الطاعة
- ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة
- ومن وطن عالم الأشباح إلى وطن عالم الأرواح
فمن هاجر من هذه المواطن ، قاصداً بهجرته الوصول إلى رضى الله ورسوله ، أو الوصول إلى معرفة الله ورسوله ، فهجرته موصلة له إلى الله ورسوله ، على حسب قصده وهمته ، ومن كانت هجرته إلى حظوظ نفسه وهواه ، فقد خاب قصده ومسعاه وغاية هجرته ما هاجر إليه ، وكانت هجرته زيادة في جر الوبال إليه فافهم أيها السامع قوله عليه السلام :"فهجرته إلى ما هاجر إليه" وتدبره وأعرضه على قلبك ونفسك وانظر هل فيك بقية من الإلتفات إلى ما هاجرت منه أو فيك حظ سوى ما هاجرت إليه من رضوان الله ورسوله ، أو معرفة الله ورسوله ، فإن الله غيور لا يحب لمن طلبه أن يطلب معه سواه ، ولن يوصل إليه من بقي فيه بقية من حظه وهواه .
ولما كان السفر لا بد فيه من دليل وإلا ضل عن سواء السبيل ، افتتح الباب الخامس بذكر الصحبة وشروط المصحوب وآدابها ، فقال :
(لا تصحب مَنْ لا يُنهِضُك حالُه، ولا يدُلُّك على الله مقالُه).
الذي ينهضك حاله هو الذي إذا رأيته ذكرت الله ، فقد كنت في حال الغفلة ، فلما رأيته نهض حالك إلى اليقظة ، أو كنت في حالة الرغبة ، فلما رأيته نهض حالك إلى الزهد ، أو كنت في حالة الإشتغال بالمعصية ، فلما رأيته نهض حالك إلى التوبة ، أو كنت في حالة الجهل بمولاك ، فنهضت إلى معرفة من تولاك ، وهكذا ، والذي يدلك على الله مقاله ، هو الذي يتكلم بالله ، ويدل على الله ، ويغيب عما سواه ، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب ، وإذا سكت أنهضك حاله إلى علام الغيوب ، فحاله يصدق مقاله ، ومقاله موافق لعلمه ، فصحبة مثل هذا إكسير يقلب الأعيان .والصحبة في طريق التصوف أمر كبير في السير إلى الله تعالى، حسبما جرت به عادة الله تعالى وحكمته ، حتى قال بعضهم :"من لا شيخ له فالشيطان شيخه" وقال آخر :"الإنسان كالشجرة النابتة في الخلاء ، فإن لم تقطع وتلقم كانت دكارة " وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :"كل من لا شيخ له في هذا الشأن لا يفرح به".
ومن شروط الشيخ أربعة :علم صحيح ، وذوق صريح ، وهمة عالية ، وحالة مرضية.
فالعلم الصحيح : هو ما يتقن به فرضه ، ولا بد أن يكون عالماً بالمقامات والمنازل التي يقطعها المريد ، وبغرور النفس ومكايدها ، قد سلك ذلك على يد شيخ كامل وذاق ذلك ذوقاً لا تقليداً ، وهو المراد بالذوق الصريح . والهمة العالية : هي المتعلقة بالله دون ما سواه . والحالة المرضية : هي الاستقامة بقدر الاستطاعة ، ولا بد أن يكون جامعاً بين حقيقة وشريعة ، وبين جذب وسلوك ، فيجذبه بجذب القلوب وبسلوكه يخرجها من حالة الجذب إلى البقاء ، فالسالك فقط ظاهري لا يجذب ولا يحقق ، والمجذوب فقط لا يسير ولا يوصل ، وفساد صحبته أكثر من نفعها ، قال في أصول الطريقة :
ومن فيه خمس لا تصح مشيخته : الجهل بالدين ، وإسقاط حرمة المسلمين ، ودخول ما لا يعني ، وإتباع الهوى في كل شيء ، وسوء الخلق من غير مبالات.
فصحبة مثل هذا ضرر محض ، وإليه أشار بقوله :
(رُبَّمَا كُنْتَ مُسِيئًا فَأَرَاكَ الإِحْسَانَ مِنْكَ صُحْبَتُكَ مَنْ هُوَ أَسْوَأُ حَالاً مِنْكَ) .
رب هنا للتكثير، ربما تكون مسيئاً في حالك مقصراً في عملك ، فإذا صحبت من هو أسوأ حالاً منك ، أراك أي أبصرتك صحبتك إلى من هو أسوأ حالاً منك . الإحسان منك لما ترى ما يصدر منها من الإحسان ومن المصحوب من التقصير والنقصان ، فتعتقد المزية عليه لأن النفس مجبولة على رؤية الفضل لها ومشاهدة التقصير من غيرها علماً أو عملاً أو حالاً. بخلاف ما إذا صحبت من هو أحسن حالاً منها فإنها لا ترى من نفسها إلا التقصير ، وفي ذلك خير كثير .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : "أوصاني حبيبي فقال: لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالباً من معصية الله، ولا تصطف لنفسك إلا من تزداد به يقيناً، وقليل ما هم". وقال له أيضاً :"لا تصحب من يؤثر نفسه عليك فإنه لئيم ولا من يؤثرك على نفسه فإنه قلما يدوم، واصحب من إذا رؤي ذكر الله برؤيته والله يغني به إذا شُهد وينوب عنه إذا فقد، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتيح الغيوب " وحاصله لا تصحب من تتكلف له فوق جهدك ، ولا من يتكلف لك كذلك ، وخير الأمور أوساطها ، وهذا والله أعلم في صحبة الأخوة ، وأما صحبة الشيخوخة فكل ما أمر به الشيخ أو أشار إليه أو فهمت أنه يحب ذلك فلا بد أن تبادر إليه بقدر الأمكان ولو كان محالاً عادة لأخذت في التهيؤ للفعل . وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه :" احذر صحبة ثلاث من أصناف الناس :الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين ، والمتصوفة الجاهلين"
وزاد الشيخ زروق علماء الظاهر قال لأن نفوسهم غالبة عليهم .
ومما يتأكد النظر إليه في المصحوب الزهد في الدنيا ، ورفع الهمة عنها ولو قل عمله في الظاهر ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(مَا قَلَّ عَمَلٌ بَرَزَ مِنْ قَلْبٍ زَاهِدٍ ، وَلاَ كَثُرَ عَمَلٌ بَرَزَ مِنْ قَلْبٍ رَاغِبٍ) .
الزهد في الشيء : هو خروج محبته من القلب وبرودته منه . وعند القوم بغض كل ما يشغل عن الله ويحبس عن حضرة الله ويكون أولاً في المال وعلامته : أن يستوي عنده الذهب والتراب ، والفضة والحجر ، والغنى والفقر ، والمنع والعطاء ، ويكون ثانياً في الجاه والمراتب . وعلامته :أن يستوي عنده العز والذل والظهور والخمول والمدح والذم والرفعة والسقوط ، ويكون ثالثاً في المقامات والكرامات والخصوصيات وعلامته : أن يستوي عنده الرجاء والخوف، والقوة والضعف ، والبسط والقبض ، يسير بهذا كما يسير بهذا ، أو يعرف في هذا كما يعرف في هذا ، ثم يكون الزهد في الكون بأسره بشهود المكون وأمره، فإذا تحقق المريد بهذه المقامات في الزهد أو جلها كان عمله كله عظيماً كبيراً في المعني عند الله وإن كان قليلاً في الحس عند الناس ، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام :"عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة " وأي بدعة أعظم ولا أشنع من حب الدنيا والانكباب عليها بالقلب والقالب الذي لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة حتى ظهرت الفراعنة فبنوا وشيدوا وزخرفوا فهذه هي البدعة الحقيقة ، فعمل هؤلاء قليل في المعنى وإن كان كثيراً في الحس إذ لا عبرة بحركة الأشباح ، وإنما العبرة بخضوع الأرواح عبادة الزاهد بالله لله ، وعبادة الراغب بالنفس للنفس ، عبادة الزاهد حية باقية وعبادة الراغب ميتة فانية ، عبادة الزاهد متصلة على الدوام وعبادة الراغب منقطعة بلا تمام ، عبادة الزاهد في مساجد الحضرة التي أذن الله أن ترفع ، وعبادة الراغب في مزابل القذرات التي أذن الله أن توضع . وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول : الراغب في الدنيا غافل ، ولو كان يقول الله الله بلسانه على الدوام ، إذ لا عبرة باللسان والزاهد في الدنيا ذاكر على الدوام ولو قل ذكره باللسان.
ولما كان حسن العمل الظاهر وإتقانه الذي يكون به كماله ونقصانه إنما هو نتائج حسن الباطن وأحواله أشار إلى ذلك بقوله :
(حُسْنُ الأَعْمالِ نَتائِجُ حُسْنِ الأَحْوالِ، وَحُسْنُ الأَحْوالِ مِنَ التَّحَقُّقِ في مَقاماتِ الإِنْزالِ).
الأعمال حركة الجسم بالمجاهدة ، والأحوال حركة القلب بالمكابدة ، والمقامات سكون القلب بالطمأنينة ، مثال ذلك مقام الزهد مثلاً فإنه يكون أولاً عمله مجاهدة بترك الدنيا وأسبابها ثم يكون مكابدة بالصبر على الفاقة حتى يصير حالاً ، ثم يسكن القلب ويذوق حلاوته فيصير مقاماً . وكذلك التوكل يكون مجاهدة بترك الأسباب ثم يكون مكابدة بالصبر على مرارة تصرفات الأقدار ، ثم يصير حالاً ، ثم يسكن القلب فيه ويذوقه فيصير مقاماً . وكذلك المعرفة تكون مجاهدة بالعمل في الظاهر كخرق العوائد من نفسه ، ثم تكون مكابدة بالمعرفة والإقرار عند التعرفات ثم تصير حالاً ، فإذا سكنت الروح في الشهود وتمكنت صارت مقاماً ، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب . يعني أن الأحوال مواهب من الله جزاء لثواب الأعمال ، فإذا دام العمل واتصل الحال صار مقاماً . فالأحوال تتحول تذهب وتجيء ، فإذا سكن القلب في ذلك المعنى صار مقاماً . وهو مكتسب من دوام العمل .
واعلم أن المقام والحال لكل واحد علم وعمل ، فالمقام يتعلق به العلم أولاً ثم يسعي في عمله حتى يكون حالاً ، ثم يصير مقاماً ، وكذلك الحال يتعلق به العلم أولاً ، ثم العمل ثم يصير مقاماً حالاً ، والله تعالى أعلم . فعلامة التحقق بمقامات الإنزال هو حسن الحال وعلامة حسن الحال هو حسن العمل ، فإتقان الأعمال وحسنها هو ثمرة ونتيجة حسن الأحوال ، وحسن الأحوال وإتقانها هو نتيجة التحقق بمقامات الإنزال ، أي التحقق بالإنزال في المقامات . أو تقول حسن الأحوال دليل على التحقق بالمقامات التي ينزل الله عبده فيها ، وحسن الأعمال دليل على حسن الأحوال . والتحقق بالحال والسكون في المقام أمر باطني ويظهر أثره في عمل الجوارح .
وأفضل الأعمال التي يقطع بها المريد المقامات وأقربها هو ذكر الله ، ولذلك ذكره بأثره فقال :
(لا تَتْرُكِ الذِّكْرَ لِعَدَمِ حُضورِكَ مَعَ اللهِ فيهِ، لِأَنَّ غَفْلَتَكَ عَنْ وُجودِ ذِكْرهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلتِكَ في وُجودِ ذِكْرِهِ. فَعَسى أَنْ يَرْفَعَكَ مِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ غَفْلةٍ إلى ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ غَيْبَةٍ عَمّا سِوَى المَذْكورِ، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}).
الذكر ركن قوي في طريق القوم وهو أفضل الأعمال ، قال الله تعالى :"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"وقال تعالى :"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا" والذكر الكثير : أن لا ينساه أبداً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :"كل عبادة فرضها الله تعالى جعل لها وقتاً مخصوصاً وعذر العباد في غير أوقاتها إلا الذكر لم يجعل الله له وقتاً مخصوصاً ".
فبقدر ما يفنى في الإسم يفنى في الذات ، وبقدر ما يتفتر في الفناء في الإسم يكون متفتراً في الفناء في الذات ، فليلتزم المريد الذكر على كل حال ولا يترك الذكر باللسان لعدم حضور قلبه فيه بل يذكره بلسانه ولو كان غافلاً بقلبه ، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره ، لأن غفلتك عن ذكره إعراض عنه بالكلية ، وفي وجود ذكره إقبال بوجه ما ، وفي شغل اللسان بذكر الله تزيين جارحة بطاعة الله ، وفي فقده تعرض لاشتغالها بالمعصية ، فليلزم الإنسان ذكر اللسان حتى يفتح الله في ذكر الجنان فعسى أن ينقلك الحق تعالى من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة :أي انتباه لمعاني الذكر عند الإشتغال به ، ومن ذكر مع يقظة إلى ذكر مع وجود حضور المذكور ، وارتسامه في الخيال حتى يطمئن القلب بذكر الله ، ويكون حاضراً بقلبه مع دوام ذكره ، وهذا هو ذكر الخواص ، والأول ذكر العوام ، فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوى المذكور لما يغمر قلبك من النور ، وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق في النور ، حتي يغيب عما سوى المذكور ، حتي يصير الذاكر مذكوراً ، والطالب مطلوباً ، والواصل موصولاً . وما ذلك على الله بعزيز : أي بممتنع فقد يرفع في أعلى الدرجات من كان في أسفل الدركات ، وها هنا يسكت اللسان وينتقل الذكر للجنان فيصير ذكر اللسان غفلة في حق أهل هذا المقام.
زادكم الله يقينا
ردحذف