كيف وليس الصوفية بمفكرين ، يعمّقون البحث العقلي في استجلاء أشياء ماديّة ، أو بلاغيّين يستعملون فنّ البديع في تنميق الألفاظ وتحسينها في غيبة عن المعاني القلبية ، وإنما هم - كما تقدّم -أصحاب الحقائق الغيبيّة الباطنيّة ، يرمزون فيها إلى واقع معنويّ ذوقي روحيّ معيش ، بلغة ذوقيّة خاصّة ، يدركون أسرارها . فالألفاظ هي الألفاظ - كما تجلّى في الفرق بين الذّوق والحس والمعنى - والمعاني والمصطلحات تختلف ما بين علم وعلم ، مثلا "قال اللهُ" فعل وفاعل عند النحوييّن ، ومسند ومسند إليه عند البلاغيّين ، والموضوع والمحمول عند المناطقة ، وعند الصوفيّة الفاعل والمختار هو الله ، والفعل بإرادته تعالى . وقد شرحوا النحو - كما شرحوا غيره - بلغة ذوقيّة ، ورأى الإمام الشعراني أنّ في إمكان الشيخ أن يربّي المريد بالنحو . مثلا ، في حقيقة المضاف والمضاف إليه . مَن المضاف ومن المضاف إليه في مثل "لا نَخضَعُ إلّا لخالق الإنسان"عند النّحويّين الخالق مضاف والإنسان مضاف إليه ، وهل المضاف إليه في الحقيقة والمعنى هو الخالق أو الإنسان ؟ وفي مثل "عَبَدَ سَعيدٌ اللهَ"من الفاعل ومَن المفعول ؟ هل سعيد عَبدَ بإذنه وإرادته ، أو بإذن الله وإرادته ؟ إذا كان الفعل بإرادة الله . وهو القائل : (واللهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلون)(57) فالفاعل هو الله .نصب لفظا بالقواعد النحويّة ، ورفع معنىً بالقدرة الإلهيّة.. وفي معنى الحال الذي ينصب لفظاً عند النحويّين ، وينصب معنىً في أخلاق أصحاب الحقيقة ويخفض في أخلاق الغافلين ، هل يعني حال القلب مع الخالق ، أو حال الجوّ مع الطقس...هذا ميدان انسحب منه أصحاب سبويه ، والمترجمون على مستوى اللغات ، ودخل إليه أصحاب الحقيقة الباطنيّة ، الذين يتجاوزون بأذوقهم الشفّافة قوالب الألفاظ إلى ما وراءها ، ويترجمون ما تحمله من المفاهيم الحسيّة إلى المعاني والإشارات الذوقيّة.. والمترجم للمعنى هو القلب وليس العقل . إنها فلسفة القلوب ، لا فلسفة العقول.. فلسفة معنويّة ، لا فلسفة يونانيّة .
وحول خصوصيّة الصوفيّة في الموضوع ، يقول ابن خلدون :«لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم. إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه . فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه.» (58) وإذا لم يكن لواحد من أهل الشريعة الكلام فيه ، فبالأحرى لم يكن لواحد من العقلانيّين والمفكّرين الكلام فيه . ومن هنا ينشأ خطأ أهل الشريعة والمفكّرين وتصاب مصداقية الحقائق العلميّة بالذبول . علما بأن الباحث يصيب في اختصاصه ، ويخطئ إذا تطفّل على اختصاص الآخرين . وإذا كان التطفّل قبيحا ، ففي ميدان العلم أقبح ، وفي الحقيقة أشدّ قبحا.
نعم ، ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه ، إذا لم يكن من أهله . وقد أصيب المجتمع الإسلامي اليوم بمراهقين في العلم . ليسوا من علماء الشريعة ، ولا من علماء الحقيقة. تسلّطوا على أصحاب الحقيقة الصوفيّة ، وتراموا على القول في شرع الله ، فيجيزون في الرّبا وانواع المعاملات ما لا يجيزه الكتاب والسنة . ومن سوء تصرفهم تجلى الجهل المركّب وهم أخطر على الإسلام ، من الجهّال الذين عرفوا قدرهم ، وأمسكوا عن القول . وقد يساهم في انحطاط المستوى ، وعطّل مسيرة التّحصيل والتكوين العلميّ الصحيح ، ما يعطي من شهادة الدكتوراة في العلوم الشرعيّة.. وقديما تخوّف كبار علماء المغرب ، عند إحداث نظام الشهادات من إطفاء شعلة حبّ العلم ، وتدنّى مستواه على حساب الشرع ، إذا تحوّل القصد من طلب العلم لذاته ، إلى طلب شهادة ينتفع بها مادّيا . وقد أحسن جلالة الملك الحسن الثاني ، حين منع في الدروس الرمضانيّة أن ينادى على العالم بالدكتور ، وأن ينادى عليه بالإستاذ أو العلّامة...
وفي بعض أدعياء العلم ، الذين يخوضون في الحقيقة الغيبيّة جهلا ،ويفتون في الشريعة بآراء شخصيّة ، تجاوبا مع البشر ن وطلبا لرضاه ، والإنتفاع بما لديه ، يصدق قول عالم علّق على رواية شاذّة في قوله تعالى :"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" برفع اسم الله بأَنه تعالى يخشاهم ، لأنهم يفسدون شرائعه . وهو ما فعله علماء بني إسرائيل بشريعة موسى . حفظ الله شريعة محمد من أمثالهم.. والقول اعتباري لا شرعيّ ، ما دامت الرواية شادّة لا يعمل بها . والتعليق وقع نكتة .
وفي شريعة موسى يقول الله جلّ جلاله :(قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) (59) وأقسى عقاب أنزله الله على الذين يكتمون ما أنزل ، ويشترون ثمنا قليلا ، ويأكلون به في بطونهم نارا قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ *ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (61).
وقد قيّض الله للحقيقة الصوفيّة ، إلى جانب الحقيقة الشرعيّة علماء شرعيّين محقّقين ، صالحين مصلحين ملتزمين ، من أمثال الإمام الغزّالي ، والإمام الشعراني ، والإمام ابن تيميّة والإمام الشاطبي ، والإمام أبي طالب المكّي ، والإمام السّيوطي وتاج الدين السبكي وابن خلدون وابن حجر ، وابن عربي المعافري ، وابن عابدين وابن عجيبة ، وسلطان العلماء عزّ الدين بن عبد السلام ... كما سيأتي عند تحليل آراء كلّ إمام أو عالم في مكانه . وقد ترفّعوا بالحقيقة القلبيّة من أعمال المدّعين والمنافقين والمشعودين والمضلّلين... وصانوها من مكائد خصومها المحرومين .
وقد برهنوا بمواقفهم الإسلاميّة والإجتماعيّة ، وبأعمالهم ومجهوداتهم العلميّة في خدمة الشريعة وصونها ، وإيجابيتهم في ميدان الحياة أنّ البحث عن الحقيقة الإلهيّة ليس من أجل الإخلاد إلى الأرض والهروب من الواقع ، أو الفرار من المجتمع الفاسد ، كما يتوهّم البعض . وإنّما من اجل القوّة على المواجهة ، والقدرة على الدخول في الواقع ، والمشاركة في معركة الحياة بفعالية ، كما تجلى في سلوك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم . وهم أوّل من جاء من مجتمع جاهليّ فاسد ، وطلبوا الحقيقة في تربية الرسول صلى الله عليه وسلّم وعاشوا من أجلها ، وبها جاهدوا في سبيل نشر الإسلام ، وبناء حضارته ، وفي مقدّمتهم صاحب التجلّيات القلبيّة عمر بن الخطاب . والمجتمع لا يستفيد من صالحين يهربون من أحواله ، وإنما يستفيد من الاقوياء بالله ، وبأخلاقهم الفاضلة . وهم اصحاب الحصانة الربانيّة ، الذين يقفون وسط نار الفساد والفتنة ولا يحترقون . والصالح الإيجابي القويّ هو الذي يصلح الفاسد ، والسّلبي الضعيف هو الذي يهرب منه . واول صالح إيجابيّ قويّ بالله ، وتحصّن بحصانته ، وأصلح به مجتمعا من اكثر مجتمعات الدنيا فسادا هو الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو إمام الأولياء والعارفين ، ومصدر الحقائق القلبيّة بأسرها .
وإذا تجاوزنا عن الحقيقة الصوفيّة ، التي اعتادت أن تُهاجَمَ من خصومها المحرومين سرّها ، فالجديد البالي أنّ الدراسات الإسلاميّة اليوم - كما تقدّم ، ونعيد تحليل الفكرة توضيحا للمعنَى الذي نبحثه - قد أصيبت بكتّاب تجاوزوا حدود اختصاصهم ، أو فشلوا في مثل الفلسفة و الأدب والتاريخ ، وتراموا على القول في الدراسات الشرعيّة الإسلاميّة بفكرتنا قضيّ اللّامسؤول ، فوقعت مشاكل اجتماعيّة ، وكانت التُّهم بالإرتداد والتّكفير ، ووقعت محاكمات ، وصدرت فتوى بالقتل ، وصودرت الكتب ، وكان التغريب ن وشرّدت الأسر ، نتيجة الفضول ، وحبّ الظهور ، وممارسة مبدأ "خالفْ تُعْرَف" والمجتمع الإسلامي على كثرة مشاكله ، واهتزازاته المختلفة المصادر ، في أمسّ الحاجة إلى الطّمأنينة والسّكينة و الأمن والإستقرار ، بدل ما يخلق البلبلة والاضطراب والتشويش...
وقد سبق أن وضعنا الأصبع على مكان الإنزلاق الخلقيّ ، ونبّهنا إلى أن التخصّصات في مثل الادب والفلسفة والتاريخ والإقتصاد والقانون... محترمة ، لا يتناولها عادة إلّا المتخصّصون ، وفي الدراسات الإسلاميّة يكتب ويفتي ويناقش ، ويلاحظ كلّ من هبّ ودبّ بشكل فوضويّ... فتصدر آراء شخصيّة خائطة على المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والصوفيّة وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلّم وحياة أصحابه... وتلك من علامات الساعة ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ يقول : (إذا أُسْندَت الأُمورُ لغَيْر أَهلهَا فانْتَظر السَّاعَةَ).
وقد التقى تصرّفهم داخل العلم العربي والإسلامي ، مع تصرّف بعض الفقهاء الذين يتجاوبون في فتاويهم مع البشر ، بدل مراقبة الله في الغيب ، فأثّروا - سلبا - في تقدير المجتمع للحقيقة القلبيّة ، وللجوانب الروحيّة من جهة ، وللحقيقة الشرعيّة ولكتاب الله وسنة رسوله من جهة أخررى ، وفسخوا في نفس المسلم العادي مصداقية القيم الروحية والشرعية المقدّسة ، إلى درجة أن الرجل يسأل عن الربا ، فيجاب بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)*(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (62) فيقول : قد أجازه الشيخ فلان ، فيردّ حكما محكما ، أنزله الله في كتابه على نبيّه بقول الشيخ فلان.. والملاحظ أن أغلب الناس اليوم لا يسألون ليعرفوا حكم الله ، جوازاً أو منعا ، وإنما يبحثون عن شيخ او فقيه يجيز لهم ما تورّطوا فيه، ويجهلون أنّ الذمّة لا تبرأ ، والمسؤولية الشرعيّة ، لا ترفع بفتوى شيخ أو فقيه ، إذا خالفت الكتاب والسنة والإجماع.. والله لا يقبل إلاّ الحكم بما شرع ، ومسؤولية المفتي اخطر من مسؤلية المفتى له .
على أن حرية البحث في الدراسات الإسلاميّة مؤمّنة ، للمتخصّصين الملتزمين بشرع الله بحثا وتطبيقا.. وإنما بالنسبة للبعض ، ممن لا يلتزم بالتخصّص ، ولا يعرف الفرق في حرية التعبير وحرية الرأي بين الأمور العادية والمقدّسات ، قد تجاوزت حدّها ، وصدرت في غير مصدرها ، وسبّبت البلبلة ، وخلقت مشاكل اجتماعيّة : خلقها بعض الأدباء والفلاسفة والمؤرخين ، من الأساتذة الجامعيّين ، الذين من المفروض أن يتّزنوا ، ويتجنّبوا إثاراتها ، وبدل أن ينكبوا على إعطاء النتائج في تخصّصاتهم ، تراموا على الدراسات الإسلاميّة ، دون أن تكون لهم علاقة بالشريعة ومصادرها.. تراهم يؤلّفون بدون مصادر وإحالات ، لأنهم ينشئون ، ويصدرون عن آرائهم الشخصيّة ويحيلون عليها ، فذهبت الحقيقة القلبية والشرعيّة مذهب الفضول ، وحورب علماء الشريعة ، وعلماء الحقيقة في عُقر دارهم بمن لا سلاح بيده نتيجة الفراغ الناشئ عن انطفاء شعلة حبّ العلم ، وانصراف العلماء عن البحث والتحصيل إلى ميادين أخرى... والباز إذا ترك عشّه فارغا نزل به الغراب ، والغراب من فئة الغُرابيَّات يقع به التشاؤم ، ويضرب المثل بغرابة لونه ، وطول منقاره ، وتغديته بالحيوانات الصغيرة الضعيفة ، كما تغدّى الأدباء والفلاسفة والمؤرخون بمهمّة علماء الشريعة في هذا العصر...
على الرغم من أن الإسلام - كما تقدم - لا يعتذّ ولا يعمل إلاّ برَأي المتخصّص ، إلى درجة أنه إذا التقى رأي المتخصّص ورأي المشارك ، كرأي الحافظ السّخوي المتخصّص في الحديث ، ورأي الحافظ السيوطيّ المشارك في كثير من العلوم ، يقدّمون رواية السّخوي على رواية السيوطيّ . وقد تقدّم في الموضوع قول الخليفة عمر بن الخطاب :"من أَرادَ أَنْ يَسأَلَ عَن القرآن ، فَلْيَأْت اُبَيَّ بنَ كعب ، ومن أرادَ أن يسأَلَ عن الفقه فَلْيَأت معاذَ بن جَبل ، ومن أراد أن يسألَ عن الفَرائض ، فَلْيَاَت زيدَ بن ثابت ، ومن أراد أن يسألَ عن المال ، فَلْيَأْتني ، فإنّ الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما"(63) وقد أوضحنا في الجزء الأول من ط الوسيط في الإقتصاد السياسيّ الإسلامي والعصريّ ، ونظام الشركات الإسلامية والعصريّة "أن الخليفة عمر اول من فتح - عالميا - ملفّ الإقتصاد السياسي ، الذي يعني السياسة الإقتصادية الخاصّة بكلّ دولة ، وأخضع النظام الإقتصادي الإسلاميّ لسياسة الدولة الإسلامية ، وهي المعروفة بالسياسة الماليّة لعمر .
فكان على كل فريق علميّ أن يحترم نفسه ، ويلتزم بدائرة تخصّصه ، وميدان عمله ، حفاظا على الحقائق الإسلاميّة من جهة ، وعلى ضمان استقرار المجتمع الإسلامي ووحدة صفوفه من جهة أخرى وليحذر المعاندون ، وغير المتخصّصين في شرع الله ، أو المتخصّصين فيه ، ولا يلتزمون بتبيينه ، كما أراد الله ، أن يصدق فيهم قوله تعالى :( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(64).
وإنّ أوّل جانب يتلقّى ضربات المتسلّطين جهلا بحقيقته ، خاصّة ممّن سمّوهم بالسّلفيين الجدد هو الجانب الصوفيّ .على الرغم من أنّ الجانب الصوفيّ الحقيقيّ ، هو الذي يتكوّن غالبا من القرّاء والذاكرين الصّالحين والمتّقين ، والمحبّين لله ورسوله ، والصادقين معه ومع عباده ، والخاضعين لعظمته وجلاله... ويحمل راية السّلم والمسالمة والوئام والإخاء ، ومحبّة الخلق بمحبّة خالقهم ، وهي المقوّمات الأساسيّة لأيّ مجتمع مثاليّ سليم ، تنمحي داخله آثار الإجرام والإضطراب والقلق.. والمنضوُون تحت رايته لا يريدون ولا تتّجهُ هممُهم إلاّ نحوَ البحث عن معرفة خالقهم ، بدل من يحاول أن يصل إلى الشّهرة والحكم ، تحت غطاء إسلامي ، وبأسلوب ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب .
والمعرفة الربانيّة - بعد تصحيح العقيدة والإيمان - من حق الذاكرين الله كثيرا الملتزمين بالإستقامة ، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، وهم الذين يتركون أنفسهم وأهواءها ومتعلّقاتها في الأرض ويطيرون بأرواحهم الطيّبة الطاهرة نحو الملأ الأعلى ، حيث جنة المعارف قبل جنّة الخلد.. ومعرفة الله من أَسمى المعارف وأَجلّها ، تستمدّ قدسيتَها من قُدسية المقدّس ، تقدّست ذاته وأسمائه وصفاته... قد ينكر وجودها الماديون والعقلانيون ومن على بصائرهم غشاوة ، ويثبتها أصحاب البصائر النيّرة ، والباحثون بتجرّد وأمانة علميّة ، وإن لم يكونوا من أصحاب الحقيقة الصوفية ، فيسلّمون - علميّا - بوجودها ، كما سيأتي في أبحاث الإمام الشاطبي وابن تيمية .
فقد عالجت ندوة مجلة" المسلون "في إحدى دوراتها الموضوع ، تحت عنوان "مع العارفين"وجاء في تقديم الندوة "حين اخترنا عنوان مع العارفين ، أردنا بذلك المعرفة في مستواها الرفيع ، حيث لا يحدّها علم بذاته ، ولا فنّ بذاته ، وحيث تحيط هي بكل علم وفنّ : المعرفة التي ينفكُّ معها أسر العقول والنفوس ، فتشاهد حقائق من هذا الكون... إن المعرفة في هذا المستوى هي المعرفة ، وإنّ العارفين بهذا المعنى هم أولوا العلم الحق ، وهم الذين قال الله فيهم :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
** ** **
57 - سورة الصافات : 96
58 - المقدمة : ص 865
59 - سورة الأنعام : 91
60 - سورة البقرة :175
61 - سورة البقرة : 158
62 - سورة البقرة : 278
63 - خراج يحيى بن آدم ص :67
64 - سورة النحل : 117
65 - مجلة المسلمون عدد -2- ص 92
66 - سورة يوسف : 32