آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مفهوم الصدق عند الصوفية


لا بد للمريد الطالب سلوك النجاة والوصول إلى الله تعالى من أن يتحقق بصفات ثلاث : الصدق والإخلاص والصبر ، لأن جميع صفات الكمال لا يتحلى بها الإنسان إلا إذا كان متصفاً بهذه الصفات الثلاث ، وكذلك لا تتم الأعمال إلا بها ، فإذا فارقت الأعمال فسدت ولم تنل القبول .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :  اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان : صدق في القول ، و صدق في النية والإرادة ، وصدق في العزم ، وصدق في الوفاء بالعزم ، وصدق في العمل ، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها ، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق.
صدق اللسان يكون في الإخبار ، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه . وقيل : في المعاريض مندوحة الكذب(1) .
صدق في النية والإرادة ، ويرجع ذلك إلى الإخلاص ، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى .
صدق في العـزم على العمل لله تعالى .
صدق في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات .
صدق في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به .
الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد ، والرضا والتوكل والحب .
وقال القاضي زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى : الصدق هو الحكم المطابق للواقع ، ومحله اللسان والقلب والأفعال ، وكل منها يحتاج إلى وصف يخصه ، فهو في اللسان : الإخبار عن الشيء على ما هو عليه . وفي القلب : العزم الأكيد . وفي الأفعال إيقاعها على وجه النشاط والحب . وسببه: الوثوق بخبر المتصف ، وثمرته : مدح الله والخلق للمتصف به.

ومفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان ، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللسان صدق القلب وصدق الأفعال والأحوال . فأول مراحل السير هو صدق العبد في إنابته إلى ربه بالتوبة النصوح التي هي أساس الأعمال الصالحة ، وأول درجات الكمال .

والصدق في تهذيب النفس الأمارة ، يحقق النجاح الكبير في التخلص من أمراضها وشهواتها ويطهر القلب من الخبائث حتى ينتهي إلى الإيمان الذوقي الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ذاق طعم الإيمان ) .
والصدق في محاربة الشيطان والتخلص من وساوسه يجعل المؤمن في نجاة من كيده وأمان من شره ، كما يجعل الشيطان في يأس وقنوط من إضلاله وغوايته .
والصدق في إخراج حب الدنيا من القلب يحمل الإنسان على المجاهدة المستمرة بالصدقة والإيثار والتعاون الخيري ، حتى يتخلص من حبها وينجو من سيطرتها على قلبه .
والصدق في طلب العلم تخلصاً من الجهل وتصحيحاً للعمـل ، يحمل الإنسان على الإستقامة والمثابرة ، وتحمـل المشاق وسهر الليالي كي ينال منه أوفر نصيب وأكبر قسط ، وما نبغ العلماء إلا بصدقهم وإخلاصهم وصبرهم .
والصدق في العمل هو ثمرة العلم وغايته ، إذ يجعل العبد في ارتقاء دائم ، ويكمله ، ولكن قد يدخل على السائر بعض العلل الموقفة له عن مطلوبه من حب الشهرة والسمعة والالتفات إليها فالإخلاص في الصدق يزيل هذه الشوائب من طريق الغاية المنشودة وهي رضاء الله تعالى ومعرفته ومحبته .
قال أبوالقاسم القشيري رحمه الله تعالى : (الصدق عماد الأمر وبه تمامه ، وفيه نظامه ، وهو تالي درجة النبوة ).
قال الله تعالى : { وَمَنْ يُطِـعِ اللهَ وَالرَّسُــولَ فَأوْلَـئِكَ مَعَ الذِيْن أنعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِوَالصَّالِحِينَ وَحَـسُـنَ أُوْلَئِـكَ رَفِيْـقاً } .
وأمر الله تعالى المؤمنين أن يلازموا ويكونوا مع أهل الصدق فقال : {يَــأَيـَّهَا الذِينَ ءَامَنُوا اتَّقـُوا الله َوَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين }.
ووصف الله تعالى الصادقين بالقلة ، وأنهم الفئة المختارة من المؤمنين فقال : { مِنَ المؤْمِنِيـنَ رِجَالٌ صَدَقـُوا مَا عَاهَدُوا الله َعَلَيْـهِ } .
وأشار معروف الكرخي إليهم بقوله : ( ما أكثر الصالحين وأقل الصادقين في الصالحين ) .
ويا فوز الصادقين يوم القيامة ، { هَـذَا يَومُ يَنْفَعُ الصَّادِقِين َصِدْقَهُـمْ } .
وعـبـَّر الرسول الصادق المصدوق 
صلى الله عليه وسلم الصدق بالسبيل الموصل إلى البر الذي يؤهل العبد إلى دخول الجنة ، كما جعل المداومة على الصدق مفتاح درجة الصديقية فقال : ( إن الصدق ليهـدي إلى البـِرّ ، وإن البـِر ليهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقــاً...). 
وقد أوضح المصطفى 
صلى الله عليه وسلم أن الصدق يثمر طمأنينة في القلب وراحة الفكر ، بينما يسبب حالات القلق والاضطراب والشك وعدم الاستقرار ، فقد روي عن الحسن بن على رضي الله عنهما أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبـة) .
والصدق درجات ومراتب ، والصديقية مراتب متفاوتة ، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية ، وشهد الله تعالى بذلك فقال :{ وَالذِيْ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } .
ولا يعلو مقام الصديقية إلا مقام النبوة ، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى والفتوحات وعظيم التجليات .
ويُـنال الوصول إلى الله تعالى بالصدق لا بالتشهي ، لذلك قيل : ( لا ينال الوصول من كان في قلبه شهوة الوصول ) بل يناله بالجد والاجتهاد .
***
1-المعاريضُ في الكلام، وهي التَّوْريَةُ بالشيء عن الشيء.

وفي المثل: "إن في المعاريض لَمَنْدوحةً عن الكذب"؛ أي سَعَةً.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية