ولما كان طريق التصوف محبوبا بالطبع محمودا بالعقل السليم والشّرع ، بعيدا عن إدراك الكافَّة لدقَّته ، مفقود الأصول المُثْبتَة لغُرْبَته ، مجهول الإصل والفرع في حقيقته ، كثُرَ فيه المُدَّعون بلاَ حقيقة ، وتَشَيَّخَ فيه الجاهلون بالطَّريقة ، وأَنْكَرَه المُتَحَذْلقُون جُمْلَةً وتفْصيلاً ، ولم ينظرْ فيه المُحبُّون وَجْهاً وَلاَ دَليلاً ، فهلَكَ فيه قومٌ بالرَّدّ والإنكار ، وهَلَك آخَرون بالإتّباع والإغْترار .
وَلَعُمْري إنَّ المُنْكرَ أَسْلَمُ لاحتياطه ، والواقع بلا حقيقَة على خطَر لاختباطه ، بخلاف الآخد بحَقّ والتّارك به ،فَإنَّ كلاًّ منهُما على صواب فيما هُوَ به ، إذ لا يجوز أن يَقْفوا غَيْرَ ما عَلمَهُ ، ولا أنْ يَتَقدّمَ لشيء سوىَ ما فَهمَهُ .
فالواجبُ أنّ التَّبَصُّرَ في الدّين ، واتّباع الإئمَّة المُهْتَدين ، والأخْدُ بمَا بَانَ رُشْدَهُ وَظَهَرَ ، والتّوَقُّفُ عمَّا اشْتَبَهَ واستَتَرَ ، وسَنذْكُرُ مَرْصَداً في ذلك إن شاء الله بمَا فُتحَ وتَيَسَّرَ ، وعلى الله المُعْتَمَدُ في بُلوغ التَّكْميل ، وَهُو حَسْبُنا ونعْمَ الوكيل .
ثُمَّ أقولُ والله المُسْتَعانُ وعَليه التُّكْلانُ :
اعلموا رحمكم الله أنَّ التصوُّفَ لهُ مُقَدّمَةٌ وحَقيقَةٌ ونتيجَةٌ ، فمُقدّمَتُهُ :
خَشْيَةُ الله ، وحقيقَته : صدْقُ التوجُّه إلى الله ، ونتيجتُهُ : الفَناءُ في الله .
فالخَشْيَةُ مستفادَةٌ من العلم بالله ، وَ بما جاءَ عَن الله ، ومَظنَّتُهُ عُلوم الوَعظ والتَّذكير.
وحقيقَتُهُ دائرَةٌ على التّقْوى ، والإسْتقامَة كمَا أَمَرَ اللهُ ، وإفراد القَلْب والقالَب لله .
ونتيجَتُهُ دائرةٌ على كَشْف الغطاء ، وتحَقُّق الإمداد والعَطاء ، وهو الذي لَا يُنَالُ بحيلَة ، ولا يُطْلَبُ بسَبَب سوَى ترْكُ كلّ غَيْر ، وعَدَم الإلتفات لآثم ولا لبَرّ .
وفيه تَبدو فَوائد المعارف ، وتظهر اللّوائح للمُريد والعارف ، والحقائق للقلوب ، فهُوَ هبَةٌ من الله للمَحبوب ، لاتَدْفعها بلوى ولآَ تُحَقّقُها دعْوَى .
فمن طلَبه بغير مقدّماته من التّقوَى والإستقامة على آياته ، والتّجَرُّد عن الخلائق بمَرَّة لَمْ يَنَلْ منه ذَرَّةٌ ، ومن تَوَجَّهَ لطَلبه بغَيْر ذلك لَمْ يَحْصُلْ منهُ على غَيْر المَهالك ، ولكن من طلَبَ التَّحَقُّقَ بالكمال وَجدَ في صَدَفِهِ الجَواهرَ واللَّئَالي .
فيَتَعَيّنُ على المريد أن يَقطعَ أملَهُ عن التَّشَوُّف للفُتوح بالكُلّيَة ، ويُكثرَ المَسأَلة ويجعلَ نُصْبَ قَلْبه طَلبُ الإستقامة وكَمال العُبوديّة ، ولَيْسَ ذلكَ إلّا بتَحقيق التَّقوى بالوَرَع ، ثمَّ تصحيح الإستقامة بالإتّبَاع للشَّرْع ، ثمّ التَّجْريد برَفْع الهمَّة عَن المخلوقين ، وتعلُّق القَلب برَبّ العالَمينَ .
ولا يتمُّ ذلك إلآّ بصُحْبَة شَيخ ناصح أو أَخ صالح تَرْجعُ إليه فيمَا تُبْقي وتَذَرُ ، لأنَّ الإنسانَ مُبْتَلًى بنفسه وبهَواهُ قَدْ قُهرَ ، لا يُمكنُهُ إنصَافُهُ منها بمجرَّد نَظَره في عُموم أَوقَاته ، إلاّ بحاكم تَنْقادُ إليه فيمَا هيَ به في جميع ساعاته .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إذا أرادَ الله ُ بعَبد خيرًأ رَزَقَهُ جَليسًا صَالحًا إنْ نَسيَ ذَكَّرَهُ وَ إنْ ذَكَرَ أَعانَهُ " .
قال الشيخ أبو عبد الله الببُلَّاليُّ في كتاب الَّثَّوْبَة من اخْتصار "الإحياء" ما نَصُّهُ : " و لابُدَّ من صُحْبَة كامل تَفْنى عَن مرادكَ لمُراده أَبَدًا ، فنَقّبْ عَنه فَإنَّهُ ما خَلَا قُطرٌ عَنْ مثْله ، وبالله لا تَعشْ بدُونه ، فَسَلامَتُك معَ غَيره عَزيزةٌ ".
ثُمَّ قال :" فَعَدوٌّ عَرَّفَكَ عَيْبًا أَنْفَعُ من أَخ مُداهن ، وكانوا رضي الله عنهم يُحبُّون مَن يُنَبّهُهُمْ على عُيوبهم" .
قلت : فقَوْلُهُ : صُحْبةُ كامل ، يريد سَواءً دَخَلَ معه على الأُخُوَّة أَو على المشْيَخة إذا تأَهَّلَ للإفادة ، ومَلّكَه قيادَهُ بعدَ تّحَقُّق حاله المُعْتَبَر في وَصْفه الدّائر على خمسة أشياء :
- العلم بالمطلوب على وجه التحقيق بالتَّجربة .
- والبَصيرة النافذة مع إسقاط الهوى .
- والعمل الثَّابت معَ اتّباع السُّنة .
- والهمَّة العالية بتَرْك الخَلق ورَفض الدنيا والنَّفس والهوى والشَّيطان .
- والحالة الصَّحيحة بالإنحياش إلى الله وملائكته وكُتبه واليوم الآخر بإيقاف الأمل على الله فيما قَلَّ وجَلَّ.
فبالعلم يَهْدي ، وبالبَصيرَة يُمَيّزُ ، وبالعمل يُعينُ ، وبالهمَّة يُقَوّي ، وبالحَال يَرفَعُ ويَخْفضُ ويُفَرّقُ ويَجْمَعُ .
................
مقدمة التصوف وحقيقته ونتيجته - أحمد زروق
وَلَعُمْري إنَّ المُنْكرَ أَسْلَمُ لاحتياطه ، والواقع بلا حقيقَة على خطَر لاختباطه ، بخلاف الآخد بحَقّ والتّارك به ،فَإنَّ كلاًّ منهُما على صواب فيما هُوَ به ، إذ لا يجوز أن يَقْفوا غَيْرَ ما عَلمَهُ ، ولا أنْ يَتَقدّمَ لشيء سوىَ ما فَهمَهُ .
فالواجبُ أنّ التَّبَصُّرَ في الدّين ، واتّباع الإئمَّة المُهْتَدين ، والأخْدُ بمَا بَانَ رُشْدَهُ وَظَهَرَ ، والتّوَقُّفُ عمَّا اشْتَبَهَ واستَتَرَ ، وسَنذْكُرُ مَرْصَداً في ذلك إن شاء الله بمَا فُتحَ وتَيَسَّرَ ، وعلى الله المُعْتَمَدُ في بُلوغ التَّكْميل ، وَهُو حَسْبُنا ونعْمَ الوكيل .
ثُمَّ أقولُ والله المُسْتَعانُ وعَليه التُّكْلانُ :
اعلموا رحمكم الله أنَّ التصوُّفَ لهُ مُقَدّمَةٌ وحَقيقَةٌ ونتيجَةٌ ، فمُقدّمَتُهُ :
خَشْيَةُ الله ، وحقيقَته : صدْقُ التوجُّه إلى الله ، ونتيجتُهُ : الفَناءُ في الله .
فالخَشْيَةُ مستفادَةٌ من العلم بالله ، وَ بما جاءَ عَن الله ، ومَظنَّتُهُ عُلوم الوَعظ والتَّذكير.
وحقيقَتُهُ دائرَةٌ على التّقْوى ، والإسْتقامَة كمَا أَمَرَ اللهُ ، وإفراد القَلْب والقالَب لله .
ونتيجَتُهُ دائرةٌ على كَشْف الغطاء ، وتحَقُّق الإمداد والعَطاء ، وهو الذي لَا يُنَالُ بحيلَة ، ولا يُطْلَبُ بسَبَب سوَى ترْكُ كلّ غَيْر ، وعَدَم الإلتفات لآثم ولا لبَرّ .
وفيه تَبدو فَوائد المعارف ، وتظهر اللّوائح للمُريد والعارف ، والحقائق للقلوب ، فهُوَ هبَةٌ من الله للمَحبوب ، لاتَدْفعها بلوى ولآَ تُحَقّقُها دعْوَى .
فمن طلَبه بغير مقدّماته من التّقوَى والإستقامة على آياته ، والتّجَرُّد عن الخلائق بمَرَّة لَمْ يَنَلْ منه ذَرَّةٌ ، ومن تَوَجَّهَ لطَلبه بغَيْر ذلك لَمْ يَحْصُلْ منهُ على غَيْر المَهالك ، ولكن من طلَبَ التَّحَقُّقَ بالكمال وَجدَ في صَدَفِهِ الجَواهرَ واللَّئَالي .
فيَتَعَيّنُ على المريد أن يَقطعَ أملَهُ عن التَّشَوُّف للفُتوح بالكُلّيَة ، ويُكثرَ المَسأَلة ويجعلَ نُصْبَ قَلْبه طَلبُ الإستقامة وكَمال العُبوديّة ، ولَيْسَ ذلكَ إلّا بتَحقيق التَّقوى بالوَرَع ، ثمَّ تصحيح الإستقامة بالإتّبَاع للشَّرْع ، ثمّ التَّجْريد برَفْع الهمَّة عَن المخلوقين ، وتعلُّق القَلب برَبّ العالَمينَ .
ولا يتمُّ ذلك إلآّ بصُحْبَة شَيخ ناصح أو أَخ صالح تَرْجعُ إليه فيمَا تُبْقي وتَذَرُ ، لأنَّ الإنسانَ مُبْتَلًى بنفسه وبهَواهُ قَدْ قُهرَ ، لا يُمكنُهُ إنصَافُهُ منها بمجرَّد نَظَره في عُموم أَوقَاته ، إلاّ بحاكم تَنْقادُ إليه فيمَا هيَ به في جميع ساعاته .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إذا أرادَ الله ُ بعَبد خيرًأ رَزَقَهُ جَليسًا صَالحًا إنْ نَسيَ ذَكَّرَهُ وَ إنْ ذَكَرَ أَعانَهُ " .
قال الشيخ أبو عبد الله الببُلَّاليُّ في كتاب الَّثَّوْبَة من اخْتصار "الإحياء" ما نَصُّهُ : " و لابُدَّ من صُحْبَة كامل تَفْنى عَن مرادكَ لمُراده أَبَدًا ، فنَقّبْ عَنه فَإنَّهُ ما خَلَا قُطرٌ عَنْ مثْله ، وبالله لا تَعشْ بدُونه ، فَسَلامَتُك معَ غَيره عَزيزةٌ ".
ثُمَّ قال :" فَعَدوٌّ عَرَّفَكَ عَيْبًا أَنْفَعُ من أَخ مُداهن ، وكانوا رضي الله عنهم يُحبُّون مَن يُنَبّهُهُمْ على عُيوبهم" .
قلت : فقَوْلُهُ : صُحْبةُ كامل ، يريد سَواءً دَخَلَ معه على الأُخُوَّة أَو على المشْيَخة إذا تأَهَّلَ للإفادة ، ومَلّكَه قيادَهُ بعدَ تّحَقُّق حاله المُعْتَبَر في وَصْفه الدّائر على خمسة أشياء :
- العلم بالمطلوب على وجه التحقيق بالتَّجربة .
- والبَصيرة النافذة مع إسقاط الهوى .
- والعمل الثَّابت معَ اتّباع السُّنة .
- والهمَّة العالية بتَرْك الخَلق ورَفض الدنيا والنَّفس والهوى والشَّيطان .
- والحالة الصَّحيحة بالإنحياش إلى الله وملائكته وكُتبه واليوم الآخر بإيقاف الأمل على الله فيما قَلَّ وجَلَّ.
فبالعلم يَهْدي ، وبالبَصيرَة يُمَيّزُ ، وبالعمل يُعينُ ، وبالهمَّة يُقَوّي ، وبالحَال يَرفَعُ ويَخْفضُ ويُفَرّقُ ويَجْمَعُ .
................
مقدمة التصوف وحقيقته ونتيجته - أحمد زروق