الجواب : أما القول بالاتحاد فظاهر البطلان لأنه إذا اتحد شيئان فإن بقيا فهما اثنان، وإن فنيا كان الثالث شيئا آخر، وإن بقي أحدهما وفني الآخر امتنع الاتحاد لأن الموجود لايكون نفس المعدوم.
فبقي أن يطلب لكلام هذا الرجل - أي الحلاج- تأويل هو من وجوه :
التأويل الأول
أننا بينا بالبرهانِ النيّر أن الموجود هو الحق سبحانه وأن كل ماسواه فهو باطل، فهذا رَحَلَ ماسوى الحق عن نظره، وفنيت نفسه أيضا عن نظره، ولم يبقَ موجود غير الله فقال في ذلك الوقت : أنا الحق، كأن الحق سبحانه أجرى هذه الكلمة على لسانه حال فنائه بالكلية عن نفسه واستغراقه في أنوار جلال الله تعالى، ولهذا المعنى لما قيل له : قل أنا بالحق أبى، فإنه لوقال أنا بالحق لصار قوله :( أنا ) إشارة إلى نفسه والرجل كان في مقام محوِ ماسوى الله.
التأويل الثاني
أنه ثبت أنه سبحانه هو الحق ومعرفته هي المعرفة الحقية، وكما أن الإكسير إذا وقع على النحاس قلبَه ذهبا فهكذا إكسير معرفة الله إذا وقع على روحه انقلب روحه من الباطلية إلى الحقية فصار ذهبا إبريزا فلهذا قال : أنا الحق.
التأويل الثالث
أن من غلب عليه شيء يقال أنه هو ذلك الشيء على سبيل المجاز كما يقال : فلان جود وكرم، فلما كان الرجل مستغرقا بالحق لاجرم قال : أنا الحق، والفرق بين هذا الجواب وبين الأول أن في الأول صار العبد فانيا بالكلية عن نفسه غرقاً في شهود الحق فقوله أنا الحق كلام أجراه الحق على لسانه في غلو سكره فيكون القائل في الحقيقة هو الله، وأما في الجواب الثاني فالعبد هو الذي قال ذلك ومراده منه المبالغة، وبين المقامين فرق عظيم إن كنت من أرباب الذوق.
التأويل الرابع
لايبعد أنه لما تجلى في روحه نور جلال الله وزالت الحجب البشرية لاجرم بلغت روحه إلى أقصى منازل السعادات فقد صار حقا بجعل الله إياه حقا كما قال تعالى : ( ويحق الله الحق بكلماته ) فيصدق قوله : أنا الحق، لأن الحق أعم من الحق بذاته ومن الحق بغيره.
فإن قيل : فبهذا الوجه كل موجود حق فما معنى التخصيص؟
قلنا : لأنه لما تجلى في روحه نور عالم الإلهية صار كاملا حاصلا في هذه الدرجة، فلاختصاصه بمزيد الكمال ذكر ذلك.
التأويل الخامس
أنه يحمل على حذف المضاف والمعنى : أنا عابد الحق وذاكر الحق وشاكر الحق.
كتاب لوامع البينات للإمام فخر الدين الرازي