قال بعض العارفين : العلم بمنزلة البحر ، فأجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية ، فلو أجري إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده ، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده ، وهو المراد من قوله تعالى : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) [ الرعد : 17 ] فبحور العلم عند الله تعالى ، فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء ، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغارا على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم . وعلى هذا ما روي في الخبر " للعلماء سر ، وللخلفاء سر ، وللأنبياء سر ، وللملائكة سر ، ولله من بعد ذلك كله سر ، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين ، وبادوا بائرين " .
والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية ، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش ، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة ، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه ، وكذلك علماء الباطن - وهم الحكماء - زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر .
تفسير القرآن
التفسير الكبير
الإمام فخر الدين الرازي