التجلّي ظهور الشيء بعد خفائه، وهذا يصحّ في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، أي ظهر واضحاً وبرز جلياً، بعد أن كان مخفياً مستتراً خلف الليل. ويصح أيضاً في قوله: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾، أي أظهرها وأوضحها وكشفها حتى لم يعد هناك خفاء. لكنه لا يصح في قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾، لأننا لا نستطيع أن نقول أن الله ظهر بعد خفاء، فهو سبحانه لا يختفي، وهو أظهر الموجودات، وكيف يكون لمخلوقاته من الظهور ما له، وهو الذي خلقها؟ فهو أبين الأشياء وأظهرها بالعلم والقدرة والنور والإحاطة.
ويرى الراغب أن تجلي النهار (يكون بالذات)، يعني أن النهار كله قد ظهر بذاته، ولم يبق منه شيء مخفياً. ويرى أن تجلي الرب للجبل (يكون بالأمر والفعل)، أي أن الله لا يتجلى بذاته كشفاً للأشياء، وإنما يتجلى لها بمقدار ما تستطيع أن تأخذ من أمره وفعله. أو كما يقول الجرجاني في التعريفات عندما يشرح التجلي الذاتي: (إذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات إلا من وراء حجاب من الحجب الإسمائية).
وإنه لمن الضروري أن نأتي على التعريفات التي ذكروها للتجلي، فمن ذلك ما قاله الشيخ الأكبر في (اصطلاح الصوفية) بأنه: (ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب). ويتردد هذا التعريف على أقلام أهل الفكر والعرفان، ومنهم القاشاني والشريف الجرجاني. ونحكم يقيناً أن من أوجه وأجدر من يؤتى برأيه وكلامه لتعريف التجلي، وفهمه على الوجه الأدق المحكم، وهو الأمير المكزون السنجاري، ففي رسالته (تزكية النفس) يقول وهو يعرّف التجلي ويبيّن معناه بأنه: (رفع الحجاب، حجاب الظلمة عن بصر المبصر، ليشاهد من ذات المتجلي على قدر طاقته، في حد عجزه وكلال بصره عن مشاهدة نور اللاهوت، من غير تغيير في ذات المتجلي بحركة توجب الانتقال عن حال بطونه، وإنما شُهد بذلك من قبل تقلب القلوب والأبصار، وذلك في مشاهدة الشهادة، تعالى عن الحركة والسكون، وتنزّه عن حلول الأجساد والتغيير والفساد).
ومن تأمل هذا الكلام الرفيع، ينتهي إلى معرفة التجلي بأنه، يكون بين الخالق من جهة وبين المخلوق من جهة أخرى، فالخالق يمد المخلوق بفيوضات منه، والمخلوق يتقبل ما يستطيع أن يتقبل منها، والخالق ينزل من رحمته وعلمه وقدرته، والمخلوق يتلقى منها ما هو مخصوص له أن يتلقاه، ويستحيل أن يطرأ على الخالق تغير أو تحول في ذاته من خلال التجلي، وإنما التغيير والتحول واقعان في المخلوق، وفي قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾، نشاهد أن المتغير عن صفته والمتحول عن شكله هو الجبل الذي يتلقى فعل التجلي، وأن تغيراً ما وتحولاً لا يقعان إلا بعد التجلي. وإلى هذا المعنى عنى ابن عربي في بعض ما عنى عندما يقول: (له تعالى التجلي الدائم العام في العالم على الدوام، وتختلف مراتب العالم فيه لاختلاف مراتب العالم في نفسها، فهو يتجلى بحسب استعدادهم). وفي مكان من الفصوص يقدم مثلاً يشرح فيه عملية التجلي فيقول: (فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين، هكذا هو التجلي الإلهي).
وعنده أن التجلي على نوعين: التجلي الوجودي، وهو عام شامل للموجودات بأسرها، ويعني أن الوجود وما فيه هو مظهر للذات الإلهية، والأشياء لا توجد إلا إذا تجلت فيها أسماء الحق وصفاته من نور وعلم وقدرة ورحمة وغير ذلك. (وهذا التجلي دائم مع الأنفاس في العالم، واحد يتكثر في مظاهره لاختلاف استعداد المتجلي فيه) كما ورد في المعجم الصوفي. وعن هذا التجلي يقول ابن عربي: (والتجلي الإلهي يكسب الممكنات وجودها)، ويقول: (إن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها).
والتجلي الثاني، هو التجلي الشهودي أو العلمي العرفاني، وهو الوصول إلى المعرفة عن طريق الكشف والشهود الذوقي، ولا يتيسر إلا لمن بذل النفس والنفيس في سبيله. فالعلم الكامل في رأي الشيخ لا يحصل إلا (في التجلي الإلهي وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية، فتدرك الأمور قديمها وحديثها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها). ويقول أيضاً: (والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي... إنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك). ولهذين النوعين من التجلي عند غيره أسماء أخرى، وكلها تلتقي في فضاء واحد، وله كتاب (التجليات) والشرح عليه لابن سودكين، وقد بلغا مبلغاً في شرح التجلي والحديث فيه بما لا مزيد عليه.
ولكي تفهم التجلي، ويتضح معناها للقرائح والألباب، فقد وجد لها أهل الذوق والشهود مثلاً في المرايا التي تعكس الصور المقابلة لها، والناظر إلى صورته يرى نفسه في المرآة وكأنه ليس فيها. ونكتفي بذكر اثنين من هؤلاء، أما أحدهما فهو قديم، ينتمي إلى عصر الشيخ ابن عربي، وهو الأمير المكزون السنجاري، وفي المثل يقول:
كـل يـراك كـعينه إذ أنت مرآة الوجود
وسواك ما يبدو له فيغيب في حال الشهود
إذ لا يجاوز حدّه وسواك يدخل في الحدود
ويقول أيضاً:
تجلى لي فجـلّاني لـعيني كما لي صورتي المرآة تجلو
ومثّل لي الحقيقة في خيال كما في النور يحكي الشخص ظلّ
وأوجدني وأفقدني وجودي كمهجور له في النوم وصل
وأما الآخر فهو الأمير عبد القادر الجزائري، وهو يكاد يكون معاصراً، لكنه ينتمي إلى مدرسة الشيخ ابن عربي، وحديثه في تشبيه التجليات بالمرايا طويل مفصّل، نأخذ منه القدر الذي يكفي للبيان: يقول في كتابه (الموافق): (من أعظم الأمثلة للتجليات الإلهي الأجسام الصقلية، وبالخصوص المرايا). ثم يقول: (جعل تعالى الأجسام الصقلية مثالاً لتجلّيه في الصور الحسية والخيالية، والمثالية، والعقلية، وأن تصوّر تجلية تعالى صعب جداً)، إلى قوله: (فإن ظهور الصور وتجلّيها في الأجسام الصقلية مجهول للعقول، لم يدركه حكيم ولا متكلم، وإنما أدركه أهل الكشف والوجود الذين أعلمهم الله بحقائق الأشياء).
ومن كلام آخر له، نأتي به مختصرين، يقول: فما خلق الله المرايا إلا ضرْب مثال لتجليه، فليست الصورة الظاهرة بسبب المقابلة للمرآة عين المتوجه على المرآة، لأنها بين المقابل والمرآة والرائي، لا يشك أنه رأى شيئاً زائداً على المرآة، وعلى المقابل لها، فليس هو عدماً صرفاً، ولا هو من المعقولات، ولا من الماديات، ومع إدراكه ذلك محسوماً، لا يقدر أن يحكم عليه بأنه موجود ولا معدوم، ولا ثابت ولا منفي، ولا هو معلوم ولا مجهول، ولا هو جوهر ولا عرض ولا جسم، فهو شيء يدركه الحس ويثبته، وينفيه العقل.
فكذلك يقال في العلم الإلهي في التجلي، الوجود الحق الذات متجل بالصور الحسية والخيالية والمثالية والعقلية والروحانية، التي هي مرايا تجليه من غير حلول، كتجلي المعاني وظهورها بالألفاظ. وليس هناك إلا وجود واحد، يتعدد بتعدد الصور التي هي مراياه، ويرى فيها ذاته المطلقة، والمقيدة المتعينة ببعض أسمائه، وكما أن المقابل للمرآة، تظهر له صورته بحسب ما هي عليه المرآة من الصفات، وهو على غير تلك الصفات في ذاته وصفاته، كذلك يقال في العلم الإلهي: الحق يتجلى بالصور التي هي مراياه، بحسب استعدادتها، وما تعطيه أعيانها الثابتة في جميع صفاتها وأحوالها.
وكما أن المتوجه على المرآة، إذا رفع يده اليمنى مثلاً رفعت الصورة يدها اليسرى، وبالعكس، فكأنها تقول للمقابل للمرآة: إنه وإن كانت نشأتي في مقابلتك، فما أنا عينك، إذ لو كنت عينك ما خالفتك في شيء، ولا أنا غيرك، إذ لو كنت غيرك ما تحركت بحركتك، كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات- المتجلي بالصور الظاهر بها، حسب استعداداتها، وما هي عليه من القبول لظهور آثار الوجود الذات- إني وإن كنت على صورتك، فما أنا أنت ولا أنت أنا، فإنك المطلق وأنا المقيد، ولا أنا غيرك، فإنه لولا توجهك على العين الثابتة المعدومة ما ظهرت أنا بينك وبينها.
ويذكر القشيري في الرسالة أن: (العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي). يعني أن العامة من جماعة الصوفية، لا يستطيعون أن يتحملوا الوصول إلى مرحلة الكشف، فحقهم أن يظلوا متأخرين في دور الاستتار والاحتجاب، حتى يصل استعدادهم إلى الدرجة التي يقدرون معها أن يتحملوا بواده أنواره. أما الخواص، وهم من منحوا نعمة قدرة التلقي والاستلام، فهؤلاء يعيشون في كشف دائم. وفي الخبر: (أن الله إذا تجلى لشيء خشع له)، فهم في خشوع دائم لا يستطيعون الخروج منه. ويقول القشيري أيضاً: (والستر للعوام عقوبة، وللخواص رحمة، إذ لولا أنه يستر عليهم ما يكاشفهم به، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة، ولكنه كما يظهر لهم يستر عليهم). وكلامه هذا يشرحه بكلام له آخر، أعني قوله: (وأما الخواص فهم بين طيش وعيش، لأنّهم إذا تجلى لهم طاشوا، وإذا ستر عليهم ردوا إلى الحظ فعاشوا).
ونقدر أن نقول بيقين وثبات، أن التجلي لا يشير من قريب ولا بعيد إلى الحلول ولا إلى الامتزاج بين المتجلي والمتجلى لهم، ولا يفهم منه في ظاهره وباطنه إلا خالص التوحيد. وهل ندل على ذلك بأنصح وأبين من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي يوضح فيه مفهوم التجلي مع أصفى معنى للتوحيد؟ فهو كرّم الله وجهه يقول: (.. ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع عن عين البصيرة، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره). وفي خطبة أخرى يقول: (وإنما تجد الأدوات أنفسها، وتشير الآلات إلى نظائرها... بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون). ويقول: (إن الله تجلى لعباده من غير أن يروه، وأراهم نفسه من غير أن يتجلى). ويقول أيضاً: (لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها).
المصدر: مصطلحات قرآنية: د. صالح عضيمة.