الكمال
يقول ابن الدباغعن الكمال : " الكمال معناه حضور جميع الصفات المحمودة للشيء وهو ينقسم إلى ظاهرٍ وباطن " .
وهو بهذا يعرّف كمال المخلوق لا كمال الخالق فالخالق سبحانه هو الكمال المطلق وعنه صدرت سائر الكمالات ولكل مخلوق في هذا الوجود كماله الخاص به والذي يستمدّ في البداية والنهاية وجوده من الكمال المطلق وقد ورد عند ابن سبعين هذا المعنى حيث يقول " الكمال كنه الكائن" , وابن سبعين يقصد بقوله (الكمال) الكمال المطلق الذي هو أصل الوجود فالله واجب الوجود، والإنسان ممكن الوجود ويقول الجرجاني في تعريفه للكمال: " الكمال مايكمل به النوع في ذاته أو في صفاته والأول_أعني ما يكمل به النوع في ذاته_ وهو الكمال الأول لتقدمه على النوع, والثاني_ أعني مايكمل به النوع في صفاته _ هو مايتبع النوع من العوارض وهو الكمال الثاني لتأخره عن النوع" .
فالجرجاني يتحدث عن كمال الجوهر وكمال العرَض, فالكمال الأول يعود إلى كمال الجوهر, والكمال الثاني يعني كمال العرَض.
مراتب الكمال:
"تُقسم النفوس عند ابن الدباغ إلى ثلاثة أجناس:1- نفوسٌ نباتية: لذّتها في المطعم والمشرب.
2- نفوسٌ حيوانية: لذّتها في المنكح وموجبات الغضب من رياسة وانتقام
3- نفوسٌ إلهية: لذّتها في تحصيل المعارف الربانية والانتعاش بالعلوم الدينية والقرب من الحق تعالى ومحبته, فالإنسان على هذا يجانس النبات بالنفس النباتية والحيوان بالنفس الحيوانية والملائكة بالنفس الإلهية. "
فكمال النفوس يتمثل بالنفوس الإلهية والارتقاء إلى تلك المرتبة غاية كل موجود ومن هنا نتبين أن لكل موجود نقص بالنسبة لما فوقه وكمال بالنسبة لمن هو أدنى منه, ولكل مخلوق وظيفة خلقه سبحانه ليؤديها وكماله يتجسد في أداء وظيفته التي خُلِق من أجلها, والإنسان أرقى المخلوقات في هذا الوجود لأنه يملك العقل ويتميز عن الكائنات الأخرى به وهو في سعي دائم نحو الكمال. وكنا قد قدمنا بأن الكمال كمال الله عز وجل فكماله لايشبه كمال أي شيء من مخلوقاته لأنه كمال قائم بذاته لا بمعانٍ وصفاتٍ يستمدّها من غيره, في حين أن الإنسان يستمدّ كماله من فيض كمال الله سبحانه وتعالى عليه, ويقول عبد الكريم الجيلي في هذا المعنى: " كماله سبحانه وتعالى بذاته, لابمعانٍ زائدةٍ عليه, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا" .
ويقول ابن الدباغ : " النور الإلهي وإن كان واحداً فقد اختلفت آثاره في الذوات لاختلافها فبعضها قبلت منه صفة الوجود والحياة والمعرفة والمحبة والجمال وهي الذوات العارفة الكاملة. وبعضها قبلت منه صفة الوجود والحياة والجمال وهي الأجسام التي تتدبرها الأنفس العارفة. وبعضها قبلت الوجود والجمال وهي أجسام الحيوان والنبات. وبعضها لم تقبل من هذا النور إلا صفة الوجود خاصةً وهي أجسام الجماد المظلمة في ذاتها" .
إن الصفات السابقة التي قدمها ابن دباغ هي التي تميّز الموجودات عن بعضها فكمال كل موجود منها يكون بقدر العناية الإلهية وكلما كان نصيب الموجود منها وافراً كان أرقى في سلّم الكمال. والمحبة هي من صفات الذوات العارفة كما قدّمنا وهي أداةٌ من أدوات الكمال, بل هي أشرف الصفات وأكملها, يقول ابن الدباغ: : "فالمحبة إذاً من صفات المقربين وبها كمال الموجود الحيّ وبقدر وفور نصيب العارف منها يكون قربه من بارئه وبضعف نصيبه منها يكون نزوله إلى أفق البهائم فليس في العالم باعثٌ على العروج إلى عوالم النور شيءٌ سواها فهي أشرف الوسائل وأكمل ما اتّصف به كل عارف كامل" .
نوعا الكمال:
قسم ابن الدباغ الكمال إلى ظاهر وباطن فيقول : " الكمال الظاهر اجتماع محاسن صفات الأجسام اللائقة بها وهو يختلف باختلاف الذوات فكمال كل شيء بحسب مايليق به" .ولكل مخلوق كماله, فالذي تكمل به الأزهار غير الذي تكمل به الحيوانات وكذلك غير الذي يكمل به الإنسان, يقول ابن الدباغ: " الذي يكمّل جنساً من الأجناس غير الذي يكمّل الجنس الآخر, والذي يكمّل عضواً من أعضاء البدن غير الذي يكمّل العضو الآخر فكمال النبات غضارته ونضارته وبدائع أزهاره واختلاف ألوان نوّاره ،وكمال الصوت في رخامته وعذوبته،وكمالات الأجسام كثيرة،فهذا هو الكمال الظاهر، والنفوس تتأثر به لأنه مظهر الجمال المحبوب بالطبع الروحاني والنفساني،إذ الإنسان السليم من الآفات يحبُّ الصورة الحسنة الخلق،وينفر عن الصورة المشوّهة المنكوسة أو التي فيها نقصٌ أوشَينٌ .والحواس التي هي رسل النفس إلى الجمال المبدّد على صفحات الموجودات تستريح إلى رؤية الماء الصافي والأزهار المونِقة والأصوات الرخّمة والنغمات الموزونة ،حتى إنّ إدراك لذّة هذه الأشياء تُذهب الحزن وتُفرح القلب ،فميل النفوس إلى هذه الأمور المناسبة لهاأمر طبيعي لا يُنكر ومحبتها لها إنّما هو لذاتها لكونها مظهراً للجمال" .
إنّ النص السابق يبين علاقة الجمال بالكمال ،فالكمال سرٌّ في وجود الجمال، والحواسُّ آلة النفس لإدراك الكمال والجمال، لما في النفس من ميلٍ وتناسب فطري لذلك، وهذا طبيعيٌّ لأنّ الذي أبدع الجمال وخلقه أشرق بنوره على النفس الإنسانية، فكان للنفس الإنسانية نصيب من ذلك النور وسعيٌ نحو إدراكه ف الموجودات الأخرى، فالنفس تنفعل بالجمال والكمال بجمالها وكمالها الداخلي الذي وضعه الله فيها.
ولكل مخلوقٍ وظيفة، وكماله بحسب تحقيقه لهذه الوظيفة التي خلقه الله لأجلها وحسن أدائه لها ،فيقول : "كمال الفرس في حسن قبوله لما يراد منه من الكرِّ والفر"
ومن هنا نقول إنّ ارتقاء الإنسان في سلّم الكمال يكون بمقدار تحقيقه لوظيفته التي خُلق لأجلها وهي العبوديّة والاستخلاف،يقول تعالى:(إذ قال ربّك للملائكة إني جاعل ٌ في الأرض خليفة)_البقرة (30)
و النوع الثاني من الكمال هو الكمال الباطن ويعرّفه ابن الدباغ بقوله: " هو اجتماع الصفات الفاضلة في الإنسان على اعتدالها وتطبّعه بها" .
فالكمال الباطن الذي يعنيه ابن الدباغ هو مانسميه بجمال الروح وتهذيب الأخلاق الحميدة والفضيلة وامتلاك الصفات الفاضلة التي ترتقي بجوهر الإنسان وتصقله. يقول ابن الدباغ في هذا: "الصفات الفاضلة العقلية كثيرة لكن أمهاتها أربعة وهي الحكمة والعفّة والشجاعة والعدالة. فمن هذه الصفات تفرّعت سائر الفضائل المكملة لذات الإنسان, ولا يكمل الإنسان إلا باجتماعها فيه كاملةً, ولاتكمل هي نفسها إلا باعتدالها, واعتدالها بكونها تجري على قوانين الشرع المؤيد لقضايا العقل إذ بالشرع تكمن محاسن الأخلاق, يقول صلى الله عليه وسلم : (إنما بُعِثتُ لأكمّل مكارم الأخلاق)" .
إن ابن الدباغ في قوله السابق يحدّد الكليّات لينتقل إلى الجزئيّات فهو يرى أن اجتماع الصفات الأربع على نحوٍ معتدلٍ يشترط فيه التناسب مع الشريعة والعقيدة وقضايا العقل المستنير بنور القلب ثم يتحدث عن كمال تلك الصفات فيقول:" الحكمة فضيلة القوة العقلية وكمالها بالعلم ويندرج تحتها حسن التدبير وثقافة الرأي وصواب الظن, ثم الشجاعة فضيلة القوة العقلية وكمالها الورع ويندرج تحتها الوَقْيُ والحياء والخجل والسماحة والصبر والسخاء والانبساط والقناعة, ثم العدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب وكمالها بالإنصاف ويندرج تحتها جميع الفضائل التي ينقام بها وجود العالم كله، وحاصل هذه الكمالات كلها يرجع إلى كمال العلم والقدرة, أعني العلم بفضل هذه الأخلاق والقدرة على استعمالها فالكامل إذاً هو الذي يحيط علماً بهذه الأخلاق ويستعملها" .
إن منظومة الكمال الباطن التي تقدَّمها ابن الدباغ من خلال النص تشترط توافر العلم بهذه الصفات وفضلها وقدرة الإنسان على استعمالها فالعلم الشرط الأساسي لارتقاء الإنسان وكماله لأن الله ميّزه منذ خلقه بالعقل الذي هو آلته بالمعرفة والتفكير " الكامل هو الذي يحيط علماً بهذه الأخلاق ويستعملها". ويعتبر ابن الدباغ حب العلم من الكمالات الباطنة ويجد فيحب العلم لذّةً تزداد كلما كانت العلوم التي يتلقاها أشرف وأرفع مكانةً وقدراً, فالمعارف ترتقي بالإنسان في سلّم الكمال حتى تصل إلى إدراك ومعرفة الحق سبحانه وتعالى حيث يقول: " من محبة الكمالات الباطنة محبة العلم فإن النفس تحب معلوماتها سواء كانت هذه المعلومات شريفة أو خسيسة, إلا أنه كلما كان المعلوم أشرف, كانت لذّة علمه عند مُدركه أعظم ولايخلو أحدٌ من لذّة بعلم فإننا نجد الصبيّ يلتذّ بمعرفة أصناف اللعب, وكذلك نجد العالم بصنعة ما تفرح نفسه إذا انفردت بعلمه بها, وكذلك نجد من كان عالم بأسرار ملك مدينة وتدبير مملكته منها يفرح بمعرفته واطلاعه على أحوال ذلك الملك, فكيف تكون لذة من عرف الله تعالى مالك الوجود بأسره وملائكته وكيفية وجود الأشياء بقدرته وما انطوى عليه العالم من أسرار القدرة وبدائع الحكمة, هل تصل هذه اللذّة لذّة" .
في نهاية حديثنا عن الكمال يمكننا القول بأن المفارقة الحقيقية بين الكمال الظاهر والباطن هو أن الكمال الظاهر يتعلق بالجسد والمادة والعرَض, والكمال الباطن يتعلق بالروح والجوهر, وإن آلة إدراك الكمال الظاهر الحواس, بينما آلة إدراك الكمال الباطن العقل. يقول ابن الدباغ: " لانسبة بين قوى الجسم ونور العقل أي لانسبة بين لذّات الحواس ولذّات العقل, فلذّات الحواس لاتقع ذرّة من ذرات عالم العقل" .
والذي دفع بابن الدباغ لقوله هذا هو أن الحواس تعود إلى الجسد والجسد يرتبط بالنفس الحيوانية, حيث يقول: " إن الحواس إنما تدرك بإشراق نور النفس الحيوانية عليها والنفس الحيوانية إنما تدرك بإشراق نور النفس الإنسانية عليها والنفس الإنسانية بإشراق نور العقل عليها, والكل يستمدّ نوره من نورالحق تعالى فلذّات الحواس على هذا لاتقع ذرة من لذات عالم العقل" .
الجمال:
تعود أصول الفكر الجمالي إلى المراحل الأولى للحضارة الإنسانية في مصر وبابل والهند والصين واليونان. ولعلّ أفضل ما وصلنا من تلك الحضارات هو ما صاغه اليونان ولا سيما أرسطو وأفلاطون. وكان سقراط أوّل من بشّر بقدوم مرحلة جوهريّة من مراحل علم الجمال، وقد طوّر تلميذه أفلاطون علم الجمال، فقرر أن الجميل لا يوجد في هذا العالم، بل في عالم المثل، وهو خارج الزمان والمكان. أما أرسطو، فقد فضل الانتقال من الوقائع الملموسة في معالجة المسائل الجمالي، على عكس أفلاطون الذي كان ينطلق من التأمل العقلي في حلها، وبمؤلفات أرسطو بلغ الفكر الجمالي الإغريقي ذروته، وقد تم تطور لاحق للأفكار الجمالية في روما القديمة، فكان من أشهر ممثليها تيت لوكراسيوس كار، وكونيت هوراس فلاك. وأفلوطين الممثل البارز للأفلاطونية الجديدة الذي كان يرى العالم فيضاً عن الكمال الإلهي، ويقول: "إن غاية الإنسان هي العودة إلى الله، وهي عودة تتحقق عن طريق الزهد وحالات الوجد" وكان موقف كل من القسيس أوغسطين وتوما الأكويني قريباً من موقف أفلوطين. وقد تلت هذه المرحلة اللاهوتية مرحلة فلسفية جديدة ترافقت مع عصر النهضة الأوروبي مثلها كل من كانت وهيغل وغيرهما.وعرف العرب فكراً جمالياً ومفهومات جمالية خاصة بهم ارتبطت بثقافته المؤسسة على العقيدة الإسلامية، فاستوعبت كل ثقافات الأمم الأخرى في ذلك العصر، ومن هؤلاء ابن الدباغ الذي يتحدث عن الجمال، ويقسمه إلى مطلق ومقيد، فيقول: "وأما المطلق، فهو الذي يستحقه الحق تعالى، وينفرد به دون خلقه، فلا يشاركه فيه مخلوق، وهذا هو الجمال الإلهي جل عن تمثيل وتكييف وتشبيه أو وصف حقيقة" . ويقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل عن هذا: "وأما الجمال المطلق والجلال، فإنه لا يكون شهوده إلا الله وحده، فإن ظهور الجمال المطلق والجلال المطلق مختص بالله تعالى"
وأما الجمال المقيد، فيقسم إلى قسمين: كلي وجزئي. ويعرف ابن الدباغ الجمال المقيد الكلي بقوله: " نور قدسي فائض من جمال الحضرة الإلهية سرى في سائر الموجودات علواً وسفلاً باطناً وظاهراً" ثم يقول: " ولا يدركه على الحقيقة إلا من كانت ذاته كلية" . فالنور الإلهي والجمال الكلي أشرقا على كل موجود في هذا الوجود فكان لكل موجود نصيبه بحسب الإرادة الربانية، ويقول ابن الدباغ في هذا : "أول إشراقه على عالم الملكوت ثم على عالم الجبروت وهو عالم النفوس الإنسانية ثم على القوى الحيوانية ثم النباتية ثم على سائر أجسام العالم السفلي على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها، فما من ذرة من العالم إلا وقد أشرق عليها من هذا النور الإلهي والجمال القدسي" .
ولعل الجمال الكلي هو تجلي الجمال المطلق في عالم المقيد من خلال الموجودات. وأما الجمال المقيد الجزئي، فيعرفه ابن الدباغ بقوله: "نور علوي يسنح للنفس الإنسانية عند إدراك الصور الجميلة بأن تبتهج به، فتسعد بذلك الابتهاج لقبول إشراق نور من عالم الأنوار المقدسة" إن الجمال المقيد الجزئي ينعكس في داخل الإنسان على شكل نور علوي، ليحرك ذلك الجمال الكلي القدسيَّ النور الذي أشرق على النفس الإنسانية بحسب الإرادة الإلهية، فإن الجمال المُتبدّي في الزهرة ينعكس إلى داخل النفس عبر الحواس ليحرك الخيال، فيتحرض ذلك الجمال الجزئي.
ثم يذهب ابن الدباغ إلى تقسيم الجمال الجزئي إلى ظاهر وباطن، فأما الظاهر فهو ما يتعلق بالمادة، وأما الباطن، فيقصد به الجمال العقلي المجرد. يقول ابن الدباغ في الجمال الظاهر: "هو المعنى اللائح على الهياكل الإنسانية التي في غاية كمال الشكل وتمام الهيئة" . وأما الجمال الباطن، فيعرفه بقوله: " هو ما تفيضه الأنوار القدسية الإلهية إذا أشرقت على العقول الزكية من الاتصاف بأنواع العلوم الدينية وأسرار المعارف الربانية المؤدية على المحبة الحقيقية وسائر الكمالات والفضائل، ولا يدرك هذا الجمال إلا العقول التي هي في غاية الصفاء المستنير بأنوار الله التي تكون سبباً لحصول محبة الحق تعالى بجملة القلب المطهر من نجاسة الطبع، والنفوس في ذاتها تبتهج به ابتهاجاً شديداً" . فالجمال الباطن هو أثر تجلي النور القدسي الإلهي على العقول المجردة، وليست كل العقول تدرك هذا الجمال، فمن شروطها أن تعرف العلوم الدينية وتسعى إلى المعارف الربانية لتشرق وتبتهج بها. فجمال الإنسان مرتبط بذلك الإشراق الناتج عن تلك المعارف.
والجمال، كما يقول ابن الدباغ " لا يدرك مجرداً بالحواس، وإنما يدرك بنور العقل لدقة معناه ولطافته" . فالجمال الباطن يدرك بالنفس وقواها التي يسخرها الله سبحانه وتعالى لها. وقد ورد معنى الجمال الباطن عند ابن الخطيب في كتابه (روضة التعريف بالحبّ الشَّريف) حيث يقول في معنى الجمال الباطن، ويسميه الخفي: "جمال في الشيء معقول الحقائق مجرد عن الحواس، ولا يدرك إلا بنور العقل الذي يناسبه" . فالجمال الباطن أو الخفي إنما هو مختص بتك النفوس النقية والعقول المشرقة الزكية، وهذا ما نجده عند الأنبياء والعارفين.
علاقة الجمال الظاهر بالباطن:
الجمال الظاهر هو الخطوة الأولى للوصول إلى الجمال الباطن، فالإنسان يبدأ بالمحسوس، ليرتقي إلى المجرد، ويقول ابن الدباغ: "قد تضيق العبارة عن وصف لذة محسوسة، إذا قصدنا تفهيمها لمن ليست له حاسة إدراكها، فلو سألنا من لم يخلق فيه حس الذوق قط عن طعم الحلاوة واللذة بها، لن يمكننا أن نُفْهِمَهُ تلك اللذة أصلاً، ولا أن نعبر له عن كيفية حقيقتها، لأن العلم بالأشياء إنما يحصل لنا أولاً عن طريق الحواس، فمن فقدها لم يتوصّل إلى علم أصلاً" . فابن الدباغ يرى أن الجمال الظاهر هو الوسيلة إلى تحريض ذلك الجمال الكامن فينا بالقوة، ليخرجه إلى الفعل، فتبتهج النفس له وتنفعل به. يقول: "وإننا نجد كل ذي حس من الناس تتأثر نفسه بمشاهدة الجمال الظاهر، ونعلم أن ذلك فيهم غريزي، فاعلم أن الجمال الظاهر تتوصل إلى إدراكه الحواس، والجمال العقلي لا يُتَوَصَّلُ إليه إلا بصفاء العقل الإلهي، وهذا لا يوجد لكل الناس، فلذلك لا يعقله ولا يدركه إلا القليل، ومن وصل إليه يجد فيه من اللذة ما لا يجده مدرك الجمال الظاهر" . فالإنسان العاقل يستطيع توظيف إدراك الجمال الظاهر للوصول إلى الجمال الباطن وإدراكه، وذلك يكون عن طريق إدراك النفس للجمال والهيام به ليرتقي بها، فتنفعل به، لأنه يشكل لها لذة في إدراكه، فهو أثر من آثار العالم الأعلى الذي تحنّ النفس إليه من الأزل."فالجمال الظاهر دليل على الباطن، والجزئي دليل على الكلي، والمقيد دليل على المطلق، وكلها تشير إلى الجمال الإلهي" .
الإدراك الجمالي:
إن ما قدمناه في حديثنا عن العلاقة بين الجمال الظاهر والباطن يستدعي الحديث عن تطور الإدراك الجمال، فالإدراك، كما يعرفه الجرجاني، إحاطة الشيء بكماله؟. ويرى ابن الدباغ أن أول مراحل الإدراك الجمالي هي الحواس، فالإحساس الجمالي يبدأ عن طريق تلمّس لذة الجمال بواسطة الحواس، لأن الحواس أسبق في وجود الجسد البشري قبل إشراق نور العقل عليها، ولذلك فإن إدراك الحس أول الإدراكات، فيقول: "إنما سبق للنفس اللذة بالمحسوسات قبل اللذة بالأمور الروحانية لتقدم الحواس وقوى الطبع البدني من أول النشء قبل اندراج نور العقل وإشراقه على اللذات الإنسانية، فلما كان الجسم أول منزل دبرته النفس، أوجب ذلك لها محبة الأجسام وشهواتها من أول الأمر" . وبهذا تكون الحواس هي الوسيلة الأولى للمعرفة والإدراك الجماليين، وهذه الحواس هي أداة العقل الذي يرقى بالمعرفة الإنسانية إلى المعرفة الوجدانية، فلا ضير أن يعشق المرء صورة الشيء الجميل شريطة أن يتجاوز ذلك إلى ما وراء الصورة ليتحسس الّلذة الحقيقية التي لا تزول. فالإنسان إنما يعشق روح الشيء، والذي يجذبه إليه إشراق نور الله فيه، فيقول ابن الدباغ: "لو فرضنا تعري الأجسام عن روح الجمال حتى لا يفهم مع الجسم شيء إلا كونه من اللحم والدم والعظم والجلد كجسم الميت، لوجدنا النفس تنفر عن ذلك بطبعها كما تنفر عن جسم الميت، ولو كان محبوباً لها قبل الموت" فالإدراك عند ابن الدباغ يأتي على ثلاث مراتب:1. الإدراك الحسي: وهو أضعف مراتب الإدراك الجمالي، لأن الحواس تلتمس الجمال به ولا تنفذ إلى ما هو أعمق منه، فهذا الإدراك بعيد عن اللذة الجمالية الحقيقية، ويمكن لنا أن نسميه: الانفعال.
2. الإدراك الخيالي، ويحدده شكل العلاقة بين البصر والبصيرة لدى الإنسان، فإن الحواسّ هي أول أداوت للإدراك الجمالي عند الإنسان، فإذا تجاوز الإنسان في إدراكه حدود البصر، فنفذ إلى البصير، يتمكن عندها من إدراك الجمال الحقيقي. وهذا الإدراك أرقى من السابق وأسمى منه.
3. الإدراك العقلي: وهو أرقى مراحل الإدراك، فيتم تلمّس الجمال بوساطة العقل، وهو باق ثابت لا يزول، لأن لذته تبقى في النفس كامنة.
هل تأمّل الجمال عبادة؟
لقد نص القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته على التفكّر والتدبّر في خلق الله (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) فقد قرن سبحانه ذكرى اسمه جلّ وعلا بالتفكّر في خلق السموات والأرض فالإنسان عندما يبصر مظهراً من مظاهر الجمال كالزهور والبساتين وغيرها من مخلوقات الله سبحانه تتفتّق في قلبه معاني العبودية والإجلال للخالق وهذا بفطرة الإنسان منذ نشأته, لكن إدراك الإنسان ووعيه للإحساس بالجمال يختلف من فرد إلى آخر بحسب إشراق نور المعرفة والعقل عليه. يقول ابن الدباغ في هذا: " وأما المتعلقون في الجمال فهم ينقسمون إلى ثلاثة أصناف : الصنف الأول هم الذين بلغ بهم السلوك إلى محبة الجمال المجرد وكمّلوا بعشقه ذواتهم فلما كَمُلت توجّهوا بها لوجه الحق تعالى, والثاني اللذين أحبوا الجمال الظاهر المتعلق بالأجسام الجميلة إلا أنهم لم يقفوا فيه مع محلٍّ معين بل تعشّقوا الكمال المبدّد على صفحات الذوات الجميلة ولا يفرّقون فيه بين الحيوان والنبات بل يشهدون الجمال القائم بالكل إذ لكل موجودٍ في العالم نصيبٌ من الجمال الإلهي قلّ أو جلّ. الصنف الثالث هم العوام الذين لم يحبوا الجمال إلا في محلٍّ مخصوص بصنف أو بشخصٍ فهؤلاء إن كانت محبتهم لهذا الجمال المعين بالأشخاص لمجرّد لذة الطبع خاصةً دون أن يُقارَن ذلك بشهوةٍ محرّمةٍ في الشرع فهو مُباح, إلا أن هذا الصنف محجوبون عن الله تعالى بحظوظهم وعن العالم العلوي،ولا يزول عنهم هذا الحجاب حتى يكون مطلوبهم الحقّ تعالى.وأمّا من أحبّ الجمال واعتقد أنّه غاية الطلب وأنّ لا شيء فوقه أكمل منه ولا أشرف،وجحد ربَّ الجمال الذي الجمال خلق فهذا عابد وثن.
وإنما يُتَصَوَّر أن يكون النظر إلى الجمال عبادة بشرطين أحدهما القصد بالتعلق به الوصول إلى خالقه والثاني التعرّي عن الشهوات المخلدة بصاحبها إلى عالم البهائم إذ لايعطي الجمال إلا من هو أجمل منه والنظر إلى الواهب هو المقصود.
إن النص السابق يربط الجمال بالقلب والإيمان فالإنسان هو بإدراكه يستطيع تحديد مرتبته في إدراك الجمال ويرتقي بها فالمعارف الكلية التي تستمد وجودها من القرآن والسنة تنصّ على أن كلّ معرفةٍ يجب أن تقود إلى الله والجمال هو جزء من تلك المعارف لذلك فيجب أن يكون هدفه الوصول إلى الله لأن الذات الإنسانية ترتقي عند ربطها المقيّد بالمطلق فالمقيد المتمثل بمخلوقات الله (الجمال المطلق) دليل على جماله, وذلك كله شريطة التجرد من الشهوات والغرائز, فكما يقول عبد الكريم الجيلي: " معرفة الله منوطة بمعرفة هذا الوجود فمن لم يعرف الوجود لم يعرف المُوجِدَ سبحانه وتعالى وعلى قدر معرفته لهذا الوجود يعرف مُوجِدَهُ.
العلاقة بين الجمال والمعرفة:
إن أي موقفٍ يصدر عن الإنسان هو نتيجة معرفةٍ كاملةٍ فيه تحركها لتيارات الثقافية التي يتلقاها الإنسان في حياته وهي التي تحدد نوع المعرفة وطبيعتها التي تصيغ تفكيره.والنظرة الجمالية موقف معرفي رغم فطرية إدراك الإنسان للجمال إلا أن التيارات الثقافية قد تخدّر تلك الفطرة وتبعده عنها. فمن كانت ثقافته ومرجعيته التي يرتكز عليها تقوم على أن الله هو الجمال المطلق وأنه مبدع الجمال في الوجود سيكون إدراكه للجمال وانفعاله به موافق لما قدمه ابن الدباغ وأما من كانت ثقافته تعتمد مبدأ إلغاء مبدأ الوجود الغيبي في الوجود الإنساني فلم يدرك ماقاله ابن الدباغ أو يقبله فالمعارف الكلية هي التي تحدد ماهية الجزئيات وكلما ارتقى موقف الإنسان المعرفي كان أقدر على إدراك الجمال والشعور بلذته وتحقيق السعادة.
المشكلة التي نعانيها اليوم أننا نتخبط في مواقفنا المعرفية لأن الكليات أصبحت ضائعة ومشوَّشة فقد ضاعت ذات الفرد بين ثقافته الإسلامية التي تنمّي فطرته وترتقي به نحو الله, وبين تلك النظريات المعرفية التي استوردناها من الغرب.
وإدراك الجمال موقفٌ من تلك المواقف فإما أن يكون موجّهاً للتيار الثقافي الإسلامي كما هو الحال عند ابن الدباغ وابن سبعين وابن عربي وابن سينا وغيرهم فهؤلاء هدفهم من الجمال الوصول إلى الله وإدراك المطلق أو يكون تحت تأثيرات تعتمد مبدأ الوجود لأجل الوجود وترى أن الجمال مادي هدفه اللذة المادية أي الجمال موجود لأنه يجب أن يكون موجوداً فقط فلا ترتقي بذات الفرد من الحسيّ إلى المجرد بل ربما تهبط به إلى مرحلةٍ أدنى من الحسي.
العلاقة بين الجمال والكمال :
إن العلاقة بين الجمال والكمال جدليّة فنحن نرى الجمال في الكمال ونرى الكمال في الجمال ولا يمكن الفصل بينهما لكن هدف كليهما هو الوصول إلى الله سبحانه . ويقول ابن الخطيب : " الكمال مظهر الجمال ومجلى له وهو كالمادة لصورته" .ويقول السُّهَرْوَرْدِي "إنّ جمال كلّ شيء هو حصول كماله اللائق به"
والجمال والكمال عند ابن الدباغ متلازمان لايفترقان لأن الإنسان لايدرك جمال المحبوب إلا عندما يجده غايةً في الكمال. يقول: " فإن وجد فيها هذا الكمال وجد الجمال وإن,عدِم عدِم، فالكمال مظهر للجمال ومستدعٍ لوجوده, ولذلك كانت النفس تحب الكمال لأن الجمال لايوجد إلا مقارناً له"
ثالثاً: الخاتمة:
يميل الإنسان بطبعه إلى إدراك المحسوس أولاً،وقد ورد ذلك في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم (وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن ،قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي)_البقرة260والعاقل هو من يجعل المحسوس أداة من أدوات إدراك المجرّد،فعندما يتأمّل الإنسان جمال الخالق في مخلوقاته مستخدما حواسه التي ترسل إلى النفس رسائل الإجلال،يشرق نور العقل، ليزداد يقيناً بجمال خالقه، فلا يصدر عن الجميل إلّا الجمال.فالجمال الكلّي هو تجلي المطلق في عالم المقيد، وقبول الموجودات له بحسب الإرادة الإلهية.
والجمال الجزئي هو ذلك النور الذي يسمح للنفس الإنسانية بالانفعال عند رؤية الجمال، فيحرِّض الجمال الكلّي الذي أشرق عليها منذ بداية الخلق.
وأمّا الكمال فهو السرُّ في وجود الجمال وهو مظهرٌ من مظاهر الجمال ،فهما متلازمان لا يفترقان،والعلاقة بينهما جدليّة.
والمعرفة التي تلقّاها الفرد هي التي تحدد انفعاله وإدراكه للجمال.
لقد قدّم ابن الدباغ رؤية جمالية متكاملة ويمكننا بلا شكٍّ اعتبار هذه الرؤية أساساً لمفهومٍ عربيّ، ومنطلقاً لنظرية تعتمد في أساسها على الارتقاء بالإنسان في سُلّم الكمال.