آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(20).

(فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (66) ألم يان للذين ركبوا مطية العناد ، واحتراف المعارضة والإنكار ، وسوء الظن ، وربَّما الإسترزاق ، وعاشوا على حساب الحقيقة الإلهية ، أن يعودوا إلى رشدهم ويُقلعوا عن الخوض فيما يجهلون ؟ إذا لم يعرفوا من العلم ، إلاّ ما يُسَطّر بحروف أبجدية ، وبقلم من قصب ، و ويُكتب على صفحات الأوراق ، فليعلموا أنّ هناك علما يُسَطّر بحروف من نور ، وبقلم القدرة الإلهية ، ويكتب على صفحات الأرواح . والعلم في قول النبي ؤصلى الله عليه وسلم :(العلَماءُ وَرَثَةُ الأَنْبيَاء...) ، جنس يشمل علماء الشريعة وعلماء الحقيقة . فبالشريعة تصح العبادة ، وتصحّح العقيدة والإيمان ، ويقع التعامل بين البشر ، وبالحقيقة تدرك معرفة الله وتصل الأرواح الطيبة الطّاهرة إلى حضرة خالقها . وبها - بواسطة البصيرة المفتوحة -تقرأ حكمة المكَوّن سبحانه وتعالى -في أكوانه . ومن تاقت نفسه إلى قراءتها - روحيّا وغيبيّا -فليخلع نفسه ، ويرحل بروحه من الأكوان إلى المكوّن . والرحلة الروحيّة بدون دليل روحيّ - وهو الشيخ المربيّ -من أخطر المخاطر ، وخلع النفس الغافلة الأمّارة المسيطرة المتحكّمة ، ليس بقميص يُرمى بسهولة . وإنما بمعاناة ومكابدة ومجاهدة وتضحيّة... لكن من عرف حقيقة ما طلب هان عنده ما وجد ، والمطلوب هو الوصول إلى حضرة الله ، وهي أجمل عروس تفرض إرادتها ، وتقول على لسان المتكلّم باسمها: 
أيها العاشـق معنى حُسنِنا 
مهرنا غالٍ لمن يـــَخْـطُبُنا 
جسدٌ مُضنى وروحٌ فى العَنا 
وجفونٌ لا تذوقُ الوَسـن 
وفــــــؤادٌ ليـــس فيـه غـيـرُنا 
وإذا ما شئتَ أدِ الـــثّمَنا 
ثم إن التركيز على لفظ الأنبياء - بدل الرسل - في قول النبي صلى الله عليه وسلم (العُلَماءُ وَرثَةُ الأنبيَاء) والأنبياء هم الذين يعيشون الحقيقة الغيبيّة ، كما يعيشها العارفون بالله ، وترى من اختصاص أصحاب الحقيقة ، دون أن يكون للأنبياء ما للرسل من الشرائع الموروثة ، التي من اختصاص علماء الشريعة ، يضع منطوق الحديث علماء الحقيقة في مقدمة الوارثين للانبياء . فالرسول شخص أوحي إليه ، وأُمرَ بتبليغه ، والنبي شخص أوحي إليه ، ولم يُِؤمر بتبليغه . فكان كل رسول نبيا ، ولم يكن كلّ نبي رسولا ، ممّا يدل على أن الحديث يَضمّ علماء الحقيقة وعلماء الشريعة ، ما بين الحقيقة القلبيّة والشرعيّة . ولا يصحّ ان يستأثر به أحد الفريقين عن الآخر ، وهو ما فعله بعض علماء الشريعة . حيث يرون أن لفظ العلماء لا يعني غيرهم . على الرغم من ان العلم يعني حمل صفة من العلم الظاهري او الباطني .

والإسلام كدين سماويّ ، جمع بين مصلحة الدنيا والآخرة ، لا يرفض من العلوم الظاهرة والباطنة اي علم تنتفع به الأمة ، فيما يضمن صلاح أمور دينها ودنياها ، ويمهّد الطريق إلى معرفة خالقها.. والكل ينتفع به .ولذلك قيّد بالانتفاع في قول النبي صلى الله عليه وسلم من رواية البخاري :" إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " . فالطب مثلا علم ينتفع به ، كما ينتفع بما به يعبد الله ، وأحرى ما يعرف به .

ولعل أفضل ما نعتمده في تلمّس آثار الجمع بين علم الشريعة والحقيقة ، أو بين عالميْ الظاهر والباطن ، في أولى مصادرها ، هي الشخصيّة العلمية المزدوجة للصحابي ابي ذَر الغفاري ، الذي يعدّ الشخص الرابع في الأسبقية إلى الإسلام ، وشهد ميلاد الحقيقة القلبيّة والشرعيّة ، وعاش تطوّرها أثناء نزول الوحي ما بين إسلامه بمكة وهجرته وجهاده بالمدينة . حيث كان من أهل الصفّة . وهم الطائفة التي يستدلّ بها أصحاب الحقيقة الصوفيّة في الإنقطاع عن الدنيا إلى الله في الباطن ، والجهاد في سبيل نشر دينه في الظاهر . وسنخصّص له بحثا مستقلاّ ، كنمودج للشخصيّة المزدوجة لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في الجانب الروحيّ والشرعيّ فحسب ، وإنّما في الجانب الروحيّ والشرعيّ والإقتصادي والإجتماعي...خاصة أنه من مجتهدي الصحابة.. والبحث قد لا يحقق هدفه ، إذا لم ينطلق من الواقع ، ويقدّم أمثلة حية ، تفتّت الصور الملتبسة المصطنعة حول قيمة الحقيقة الصوفية ، والتشكيك في مصدرها .

ونلاحظ أن أبا بدر في ميدان الشريعة المرويّة يقول : سمعت رسول الله أو قال أو أخبرني أو أوصاني ، وفي ميدان الحقيقة المستمدَّة من الأرواح الطيّبة الطاهرة ، يعبّر تعبيراً مغايراً ويقول - فيما رواه الحافظ الهيتمي ، وأخرجه الطبراني - : " ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً مما صبَّه جبرائيلُ ومكائيلُ في صدره ، إلاّ صبَّه في صدري ، وما تركتُ شيئا مما صبَّه في صدري إلاَّ صببتُهُ في صدر مالك ابن ضمرة " (67) وسيأتي أنه أول من تكلّم في علم الفناء والبقاء ، الذي يمثّل العمود الفقري في الحقيقة الصوفيّة ، فكان في ميدان الحقيقة الصوفيّة بمثابة الشيخ ، ومالك بن ضمرة بثابة المريد ، إلى جانب أكثر من أربعين تلميذاً له في رواية الحديث (68) وقد روى عنه ثلا ثة من الأئمة : عليّ بن أبي طالب ، والحسين بن علي ، وجعفر الصّادق (69) كما روى عنه عبدالله بن عباس ، وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك (70)وهي مكانة لم يحظ بها راو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم مع اعتباره رائد الحقيقة القلبيّة ، واعتماده لدى أصحاب الحقيقة الصوفيّة . والحقيقة الصوفيّة هي نفسها الحقيقة القلبيّة ، سواءً بسواء .

وبذلك تكون مروياته واستمداداته ، ما بين الشريعة والحقيقة ، تترجّح ما بين أخبرني وصبَّ في صدري ، والمصدر واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلّم . والمعلوم أن الرواية سند ظاهريّ ، والتعبير بالصبّ أو الإستمداد اتّصال روحيّ باطنيّ . والرواية تعتمد على صحة السّند والمتن ، والاستمداد الباطنيّ يعتمد على سلامة الفطرة ، وطهارة القلب وصفاء السريرة ، وكلا الأمرين في حاجة إلى شيخ ، سواء في الرواية والدراية ، أو التربيّة الروحيّة . ومهمة الشيخ - في الاعتبارين - لا تعني السّن أو اللّقب ، وإنما تعني أن يكون ذا مكانة علميّة متميّزة تؤهله لتصحيح السند والمتن ، أو ذا مقام وحقيقة إلهيّة ، ومعرفة ربانيّة تؤهله لتربيّة الأرواح .إنها معان سامية تنبعث من أرواح الذين طهّر الله قلوبهم وصفّى سرائرهم ، وأفاض عليهم من رحمته ، ومن علمه الوهبيّ اللدني ما طلب نبيّ الله موسى عليه السلام مثله لدى عبد صالح آتاه الله من فضله - والفضل فضله يؤتيه من يشاء - وعلّمه من الحقيقة الغيبيّة ما لم يعلّمه لنبيّه موسى عليه السلا م فكتاب الله وسنّة رسوله ، وعمل أصحابه خير مرجع ، وخير طريق الاهتداء لكل مؤمن سمَت همّته ، وتاقت نفسه إلى الحقيقة ، وطَمِعَ في الوصول إلى الكرْع من كوثرها .

وإذا استرشد نبي الله موسى عليه السلام بالعبد الصالح ، واسترشد الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو مصدرها الأصلي ، واسترشد عمر بأبي بكر ، واسترشد مالك بن ضمرة بأبي ذر... فالاسترشاد بأصحابها في كل زمان ومكان يكون من باب الاتّباع ، وليس من باب الابتداع . جعلنا الله نحن وجميع القراء ممّن قال الله في شأنهم :( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (71) إنّ الحسن في القرآن هو المتشابه ، والأحسن هو المحكم . والآيات التي ورد فيها الأمر بذكر الله والصلاة على نبيّه محكمة فيكون أولوا الألباب هم الذاكرون الله والذاكرات . وهم على عكس الغافلين عنه والغافلات .

ويلا حظ القارئ أثناء مراحل البحث أننا - على غير المعتاد عند من يكتب في التصوف ، كسلوك خاص بجماعة - نحاول أن نمدّد مفاهيم الحقيقة الإسلامية ، التي أكرم الله بها سيدنا محمدا وورثها أصحاب الحقيقة الصوفيّة على منوال البحث ، لتلقي بظلالها ، وترفرف بجناحيْها على نظام الحياة العامة ، إبرازاً لتجاوبها مع المقوّمات الأساسيّة : الإجتماعيّة والخلقيّة والمثاليّة والإنسانيّة والماديّة والمعنويّة والمصلحيّة : الخاصة منها والعامة... فضلا على الجوانب الدينيّة والروحيّة ، التي برمّتها قُلٌّ من كُثُرٍ مما جاء به الإسلام .

** ** **
66 - سورة يونس : 32
67 -مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 330/9
68 - سير أعلام النبلاء 31/2
69 - الصلة بين التصوف والتشيع ص:33
70 -سير أعلام النبلاء 31/2
71 - سورة الزمر :17


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية