قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: (مكثت اثنتي عشرة سنة حدّاد نفسي، وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطي زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فرأيت الخلق موتى فكبّرت عليهم أربع تكبيرات).
ومعنى هذا الكلام -والله أعلم- أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس، فعمد إلى إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كير التخويف، ثم طرقها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك. فظن أنها قد تصفت، ثم نظر في مرآة اخلاص قلبه، فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى الأعمال وملاحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند أخل الاختصاص وهو الزنار الذي أشار إليه فعمل في قطعه: يعني قطع نفسه وفطمها عن العلائق والعوائق وأعرض عن الخلائق حتى أمات من نفسه ما كان حيّا وأحيا من قلبه ما كان ميتا حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم. فعند ذلك كبّر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف إلى الحق، ومعنى قوله: كبّرت على الخلق أربع تكبيرات لأن الميت يكبر عليه أربع تكبيرات، ولأن حجاب الخلق عن الحق أربع: النفس، والهوى، والشيطان، والدنيا. فأمات في نفسه وهواه ورفض شيطانه في دنياه فلذلك كبّر على كل واحدة ممن فنى عنه تكبيرة لأنه هو الأكبر وما سواه أذل وأصغر ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات:
العقبة الأولى: فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.
العقبة الثانية: فطم النفس عن المألوفات العادية.
العقبة الثالثة: فطم القلب عن الرعونات البشرية.
العقبة الرابعة: فطم السر عن الكدورات الطبيعية.
العقبة الخامسة: فطم الروح عن البخارات الحسية.
العقبة السادسة: فطم العقل عن الخيالات الوهمية.
فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية، وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية، وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية، وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القريبة، وتطلع لك في الخامسة أقمار المشاهدات الحبية، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية. فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائف الأنسية عن الكثائف الحسية، فإذا أرادك بخصوصيته الاصطفائية سقاك بكأس محبته شربة فتزداد بذلك الشرب ظمأً وبالذوق شوقاً، وبالقرب طلبا وبالسكون قلقا. فإذا تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك حيرك، فأنت ها هنا مريد، فإذا دام لك تحيرك أخذك منك وسلبك عنك فتبقى مسلوبا مجذوبا فأنت حينئذ مراد. فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاته وفنيت ببقائه عن فنائك وخلع عليك خلعة (فبي يسمع وبي يبصر) فيكون هو متوليك وواليك، فإن نطقت فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره، وإن تحركت فبإقداره، وإن بطشت فباقتداره، فهنالك تذهب الاثنينية واستحالت البينية، فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك. قلت: هو وإن غلب عليك وجدك وتجاوز بك حدك عن حد الثبوت. قلت أنت: فأنت في الأول متمكن، وفي الثاني متلون. ومن هنا أشكل على الأفهام حل رمز هذا الكلام.