بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما الحمد لله الذي حقق الحقائق وأوضح الطرائق والصلاة والسلام على مولانا محمد سيد الخلائق. المخصوص بتواتر المعجزات وتظاهر الخوارق. ورضي الله تعالى عن أصحابه الأعلام الذين أظهر الله بهم دينه القويم في أقصى المغارب والمشارق.
وبعد: فعلم التصوف هو سيد العلوم ورئيسها ولباب الشريعة وأساسها وكيف لا وهو تفسير لمقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان. كما أن علم الكلام تفسير لمقام الإيمان. وعلم الفقه تفسير لمقام الإسلام. وقد اشتمل حديث جبريل عليه السلام على تفسير الجميع. فإذا تقرر أنه أفضل العلوم تبين أن الاشتغال به أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى لكونه سببا للمعرفة الخاصة الذي هي معرفة العيان. وقد اشتمل على حقائق عريقة وعبارات دقيقة اصطلح القوم على استعمالها فينبغي الوقوف على معانيها لمن أراد الخوض فيه والوقوف على معانيه.
وقد أردت بحول الله وقوته أن أجمع نبذة صالحة من حقائق هذا الفن واصطلاحاته لعل الله ينفع من يريد الوقوف على هذا العلم. وسميته: (معراج التشوف إلى حقائق التصوف)وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق. وسأذكر لكل حقيقة ما يتعلق بها بداية ووسطا ونهاية.
التصوف: علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك أو غيبة الخلق في شهود الحق أو مع الرجوع إلى الأثر. في أوله علم ووسطه عمل وآخره موهبة. واشتقاقه إما من الصفاء لأن مداره على التصفية أو من الصفة. لأنها تصاف بالكمالات أو من صفة المسجد النبوي لأنهم مشبهون بأهل الصفة في التوجه والانقطاع أو من الصوف لأن جل لباسهم الصوف تقللا من الدنيا وزهدا فيها. اختاروا ذلك لأنه كان لباس الأنبياء عليهم السلام. وهذا الاشتقاق أنسب إليه لغة وأظهر نسبة. لأن لباس الصوف حكم ظاهر على الظاهر ونسبتهم إليه أمر باطن والحكم بالظاهر أوقف وأقرب. يقال: تصوف إذا لبس الصوف. كما يقال: تقمص إذا لبس القميص. والنسبة إليه صوفي. قال سهيل: الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر، أي لا رغبة له في شيء دون مولاه وفي مثل هذا قيل:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعة
ولا بكاؤك إذ غنا المغنون
بل التصوف أن تصفوا بلا كدر
وتتبع الحق والقرآن والدين
قال الجنيد: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا المليح. وقال أيضا: الصوفي كالأرض يطأها البر والفاجر وكالسماء يظل كل شيء وكالمطر يسقي كل شيء.
التوبة : الرجوع عن كل فعل قبيح إلى كل فعل مليح. أو عن كل وصف دني إلى التحقيق بكل وصف سني. أو عن شهود الخلق إلى الاستغراق في شهود الحق. وشروطها: الندم والانقطاع ونفي الإصرار وأما رد المظالم ففرض مستقل تصح بدونه كما تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من غير نوعه. فتوبة العامة: م الذنوب وتوبة الخاصة: من العيوب. وتوبة خاصة الخاصة: من كل ما يشغل السر عن حضرة علام الغيوب. وكل المقامات تفتقر إلى التوبة. فالتوبة تفتقر إلى توبة أخرى بعدم نصحها والخوف يفتقر إليها بحصول الأمن والاغترار والرجى بحصول القنوط والإياس والصبر بحصول الجزع والزهد بخواطر الرغبة والورع بتتبع الرخص وخواطر الطمع والتوكل بخواطر التدبير والاختبار والاهتمام بالرزق والرضا والتسليم بالكراهية والتبري عند نزول الأقدار والمراقبة بسوء الأدب في الظاهر وخواطر السوء في الباطن والمحاسبة بتضييع الأوقات في غير ما يقرب إلى الحق والمحبة بميل القلب إلى غير المحبوب والمشاهدة بالتفات السر إلى غير المشهود أو باشتغاله بالوقوف مع شئ من الحس وعدم زيادة الترقي في معارج الأسرار ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين مرة أو مائة. والتوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وعدم الإسرار بالجنان ومهاجرة لسيئ الخلان. وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة.
الإنابة: وهي أخص من التوبة لأنها رجوع يصحبه انكسار ونهوض إلى السير. وهي ثلاث: رجوع من الذنب إلى التوبة ومن الغفلة إلى اليقظة ومن الفرق إلى الجمع على الله.
الخوف: انزعاج القلب من لحوق مكروه أو فوت مرغوب وثمرته النهوض إلى الطاعة والهروب من المعصية فإظهار الخوف مع التقصير دعوى فخوف العامة: من العقاب وفوت الثواب وخوف الخاصة: من العتاب وفوت الاقتراب. وخوف خاصة الخاصة: من الاحتجاب بعروض سوء الأدب.
الرجاء: سكون القلب إلى انتظار محبوب بشرط السعي في أسبابه. وإلا فأمنية وغرور. فرجاء العامة: حسن المآب بحصول الثواب. ورجاء الخاصة: حصول الرضوان والاقتراب. ورجاء خاصة الخاصة: التمكن من الشهود وزيادة الترقي في أسرار الملك الودود. والخوف والرجاء للقلب كجناحي الطير. لا يطير إلا بهما. وربما يترجح الرجاء عند العارفين والخوف عند الصالحين.
الصبر: حبس القلب على حكم الرب. فصبر العامة: حبس القلب على مشاق الطاعات ورفض المخالفات. وصبر الخاصة: حبس النفس على الرياضات والمجاهدات وارتكاب الأهوال في سلوك طريق الأحوال مع مراقبة القلب في دوام الحضور. وطلب رفع الستور. وصبر خاصة الخاصة: حبس الروح أو السر في المشاهدات والمعاينات أو دوام النظر والعكوف في الحضرة.(الصبر كالسبر مر في مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل).
الشكر: فرح القلب بحضور النعمة. مع صرف الجوارح في طاعة المنعم. والاعتراف بنعمة على وجه الخضوع ومرجعه لثلاث: شكر باللسان وهو اعتراف بالنعمة. بنعمة الاستكانة وشكر بالبدن وهو اتصاف بالخدمة وشكر بالقلب وهو شهود المنعم عند حصول النعمة ومرجعه الكل إلى ما قاله الجنيد: ألا يعصى الله بنعمه. فشكر العامة: الثناء باللسان وشكر الخاصة: الخدمة بالأركان وشكر خاصة الخاصة: الاستغراق في شهود المنان.
الورع: كف النفس عن ارتكاب ما تكره عاقبته. فورع العامة: ترك الحرام المتشابه وورع الخاصة ترك كل ما يكدر القلب ويجد منه حزازة أو ظلمة ويجمع قوله عليه السلام: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وورع خاصة الخاصة: رفض التعلق بغير الله وسد باب الطمع في غير الله وعكوف الهم على الله وعدم الركون إلى شيء سواه. وهذا الورع الذي هو ملاك الدين. كما قال الحسن البصري حين سئل. ما ملاك الدين؟ فقال الورع. وقيل له، وما فساد الدين؟ فقال: الطمع فالورع الذي يقابل الطمع كل المقابلة هو: ورع خاصة الخاصة: وجزء منه يعدل آلاف من الصلاة والصيام. ولذا قال في التنوير: وليس يدل على فهم العبد كثرة علمه ولا مداومته على ورده وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه والتحرر من رق الطمع والتحلي بحلية الورع يعني ورع الخاصة أو خاصة الخاصة والله تعالى أعلم.
الزهد: خلو القلب من التعلق بغير الرب، أو برودة الدنيا من القلب. وعزوف النفس عنها. فزهد العامة: ترك ما فضل عن الحاجة في كل شئ وزهد الخاصة: ترك ما يشغل عن التقرب إلى الله في كل حال. وزهد خاصة الخاصة: ترك النظر إلى ما سوى الله في جميع الأوقات. وحاصل الجميع، برودة القلب عن سوى وعن الرغبة في غير المولى، وهو سبب المحبة كما قال عليه السلام: ازهد في الدنيا يحبك الله... الحديث وهو سبب السر والوصول. إذ لا سير للقلب إذا تعلق بشئ سوى المحبوب.
التوكل: ثقة القلب بالله حتى لا يعتمد على سواه، أو التعلق بالله والتعويل عليه في كل شئ علما بأنه عالم بكل شئ. وأن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك. فأدناه أن تكون مع الله كالموكل مع الوكيل الشفيق الملاطف. ووسطه كالطفل مع أمه. لا يرجع في جميع أموره إلا إليها وأعلاه أن تكون كالميت مع الغاسل. فالأول للعامة والثاني للخاصة والثلث لخاصة الخاصة. فالأول يخطر بباله تهمة والثاني لا اتهام له لكن يتعلق بأمه عند الحاجة والثالث لا اتهام ولا تعلق لأنه فان عن نفسه ينظر كل ساعة ما يفعل الله به.
الرضا والتسليم: الرضا تلقي المهالك بوجه ضاحك أو سرور يجده القلب عند حلول القضاء أو ترك الاختبار على الله فيما دبر وأمضا أو شرح الصدر ورفع الإنكار لما يرد من الواحد القهار. والتسليم: ترك التدبير والاختيار بالسكون تحت مجاري الأقدار. فيرادف الرضا على الحد الأخير والرضا أعم منه على الأولين وقيل: الرضا عند النزول والتسليم قبل النزول وهو التفويض بعينه فبدايتهما الصبر والمجاهدة ووسطهما بالسكون مع خواطر التبرم والكراهية ونهايتهما بفرح وسكون مع عدم التبرم فالأول للعامة والثاني للخاصة والثالث لخاصة الخاصة ويغتفر الخاطر الأول عند الجميع لضعف البشرية إذ لا يخلوا منه بشر.
المراقبة: إدامة علم البعد باطلاع الرب، أو القيام بحقوق الله سرا وجهرا خالصا من الأوهام، صادقا في الاحترام وهي أصل كل الخير وبقدرها تكون المشاهدة. فمن عظمت مراقبته عظمت بعد ذلك مشاهدته. فمراقبة أهل الظاهر: حفظ الجوارح من الهفوات ومراقبة أهل الباطن: حفظ القلوب من الاسترسال مع الخواطر والغفلات ومراقبة أهل باطن الباطن: حفظ السر من المساكنة إلى غير الله.
المحاسبة: عتاب النفس على تضييع الأنفاس والأوقات في غير أنواع الطاعات. وتكون آخر النهار. كما أن المشارطة تكون أول النهار. يقوا لنفسه في أول نهاره: هذا يوم جديد، وهو عليك شهيد، فاجتهد في تعمير أوقاته بما يقربك إلى الله. ولو مت بالأمس لفاتك الخير الذي تفوزين فيه. وكذلك يقول لها عند إقبال الليل ويحاسبها عند إدباره، هكذا يدوم معها حتى تتمكن من الحضرة، فحينئذ يتحد الوقت وهو لاستغراق في الشهود فلا يبقى من يحاسب ولا من يعاقب. فتحصل أن المشارطة أولا والمحاسبة آخرا والمراقبة دائما ما دام في السير، فإذا حصل الوصول فلا محاسبة ولا مشارطة.
المحبة: ميل دائم، بقلب هائم، ويظهر هذا الميل أولا على الجوارح الطاهرة بالخدمة، وهو مقام الأبرار وثانيا على القلوب الشائقة بالتصفية والتحلية وهو مقام المريدين السالكين وثالثا على الأرواح والأسرار الصافية بالتمكين من شهود المحبوب، وهو مقام العارفين، فبداية المحبة ظهور أثرها بالخدمة ووسطها ظهور أثرها بالسكر والهيام ونهايتها ظهوره بالكون والصحو في مقام العرفان، فلهذا انقسم الناس على ثلاث مراتب: أرباب الخدمة وأرباب الأحوال وأرباب المقامات. فبدايتها سلوك وخدمة ووسطها جذب ووفاء ونهايتها صحو وبقاء.
المشاهدة والمعاينة: المشاهدة رؤية الذات اللطيفة في مظاهر تجلياتها الكثيفة، فترجع إلى تكثيف اللطيف، فإذا ترقق الوداد ورجعت الأنوار الكثيفة لطيفة، فهي المعاينة، فترجع إلى تلطيف الكثيف. فالمعاينة أرق من المشاهدة وأتم. والحاصل أن شهود الذات لا يمكن إلا بواسطة تكثيف أسرارها اللطيفة في مظاهر التجليات. إذ لا يمكن إدراك اللطيف ما دام لطيفا. فرؤية التجليات كثيفة المشاهدة. وردها إلى أصلها بانطباق بحر الأحدية عليها معاينة وقيل هما سواء.
المعرفة: وهي التمكن من المشاهدة واتصالها. فهي شهود دائم بقلب هائم. فلا يشهد إلا مولاه ولا يعرج على أحد سواه. مع إقامة العدل وحفظ مراسم الشريعة فهذه حدود المقامات قد انتهت في المعرفة. ثم نرجع إلى حقائق أخرى يكثر استعمالها بداية ونهاية منها:
التقوى: وهي امتثال الأوامر واجتناب المناكر الظواهر والسرائر. أو مواصلة الطاعات والإعراض عن المخالفات فتقوى العامة: اجتناب الذنوب وتقوى الخاصة: التخلي عن العيوب وتقوى خاصة الخاصة: الغيبة عن السوى بالعكوف في حضرة علام الغيوب.
الاستقامة: استعمال العلم بأقوال الرسول عليه السلام وأفعاله وأحواله وأخلاقه من غير تعمق وتأنق. ولا ميل مع أوهام الوسواس والخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات أو القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق في جميع الحالات وهي الأقوال بترك الغيبة وفي الأفعال بترك البدعة وفي الأحوال بعدم الخروج عن أحوال للسنن الشريعة. فاستقامة العامة: بموافقة السنة واستقامة الخاصة: بالتخلق بالأخلاق النبوية واستقامة خاصة الخاصة: بالتخلق بأخلاق الرحمان مع الاستغراق في حضرة العيان.
الإخلاص: إخراج الخلق من معاملة الحق، أو إفراد الحق تعالى في الطاعة بالقصد أو غيبة القلب عن غير الرب. فإخلاص العامة: تصفية الأعمال عن ملاحظة المخلوقين. وإخلاص الخاصة: تصفيتها عن طلب العوض في الدارين. وإخلاص خاصة الخاصة: التبري من الحول والقوة ومن رؤية الغير في القصد والحركة حتى يكون العمل بالله ومن الله وإلى الله غائبا عما سواه. الصدق: إسقاط حظوظ النفس في الوجهة إلى الله تعالى تعويلا على ثلج اليقين أو استواء الظاهر والباطن في الأقوال والأفعال والأحوال وملازمة الكتمان غيرة على أسرار الرحمان. وحاصله: تصفية الباطن من الإنتفاتات إلى غير بالكلية والفرق بينه وبين الإخلاص أن الإخلاص ينفي الشرك الجلي والخفي والصدق ينفي النفاق والمداهنة بالكلية فمثال الصدق مع الإخلاص كالتشحرة للذهب فهو ينفي عنه عوارض النفاق ويصفيه من كدورات الأوهام وكذلك أن صاحب الإخلاص لا يخلوا من مداهنة النفس ومسامحة الهوى بخلاف الصدق فإنه يذهب بالمداهنات ويرفع المسامحات إذ لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره فيما دق أو جل. وعلامة الصدق: استواء السر والعلانية. فلا يبالي صاحب الصدق بكشف ما يكره إطلاع الناس عليه ولا يستحيي من ظهوره لغيره اكتفاء بعلم الله به فصدق العامة: تصفية الأعمال من طاب الأعراض وصدق الخاصة: تصفية الأحوال من قصد غير الله وصدق خاصة الخاصة: تصفية مشرب التوحيد من الالتفاتات إلى ما سوى الله. ويقال لصاحب المقام الأول: صادق وللثاني والثالث: صديق. وأما التصديق بوجود الحق أو بوجود الخصوصية عند الأولياء وتعظيمهم لأجلها فهو تصديق لا صدق. خلاف ما يعتقده بعض فقراء زماننا هذا. ويقال لمن عظم تصديقه: صديق أيضا. فالصديق يطلق على معظم صدقه أو تصديقه.
الطمأنينة: وهي سكون القلب إلى الله عاريا عن التقلب والاضطراب ثقة بضمانه أو اكتفاء بعلمه أو رسوخا في معرفته وتكون من وراء الحجاب بتواتر الأدلة واستعمال الفكرة أو بتوال الطاعة ومجاهدة الرياضة وتكون بعد زوال الحجاب بتمكن النظرة ورسوخ المعرفة. فقوم اطمأنوا بوجود الله من طريق البرهان أو البيان وقوم اطمأنوا بشهود الله بعد ظهوره من طريق العيان. فالأول: العلماء والثاني للعباد والزهاد والصالحين. والثالث: للعارفين المقربين.
الشوق والاشتياق: الشوق يزول برؤية الحبيب ولقائه والاشتياق لا يزول أبدا. لطلب الروح الزيادة في كشف الأسرار والقرب إلى الأبد. فشوق العامة: إلى زخارف جنابه وشوق الخاصة إلى نيل رضوانه وشوق خاصة الخاصة: إلى حضرة عيانه.
الغيرة: كراهية رؤية حبيبك عند غيرك فيهيج التنافس في حيازته. قال الشبلي: الغيرة غيرتان: فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الإلهية على القلوب. ومعناه: أن الطبع البشري يكره أن يرى محبوبه عند غيره كالزوجة مثلا والحق تعالى يكره أن يرى قلوب أوليائه متعلقة بغيره وفي الحديث: لا شخص أغير من الله. ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما في الوجود إلا غيرة الألوهية سرت في مظاهر تجلياتها. فغيرة النفوس للعامة وهي غيرتهم على هتك حرمة حريمهم وغيرة القلوب للخاصة وهي غيرتهم على قلوبهم أن تميل لغير محبوبهم وغيرة الأرواح والأسرار لخاصة الخاصة وهي غيرتهم على أرواحهم أن تلتفت إلى شيء دون محبوبهم وغيرتهم على الحبيب أن يميل إلى غيرهم وعلى هذا الأمر العظيم حق للعبد أن يغار كما قال الشاعر:
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر
عليك ففيمن ليت شعر أنافس
فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبها
فكل امرئ يصبوا إلى من يجانس
وقد يغار الحق تعالى على أوليائه فينتقم من أعدائهم إذا أذوهم ومن غيرته أيضا عليهم أن يظهرهم لجملة الخلق فيضر بهم على خلقه حتى يلقوه تحت أستار الخمول وهم عرائس حضرته.
الفتوة: وهي الإيثار على النفس بما تحب، والإحسان إلى الخلق بما يحب، ولذا تكمل الفتوة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في موضع لا يذكر فيه أحد إلا نفسه: أمتي أمتي وقيل ل: لا ترى لنفسك فضلا على غيرك. والفتى من لا خصم له ومرجعها إلى السخاء والتواضع والشجاعة في مواطن الاضطراب. ففتوة العامة: بالأموال وفتوة الخاصة: بالنفوس وفتوة خاصة الخاصة: بالأرواح وبذل المهج في جانب المحبوب.
الإرادة: وهي قصد الوصول إلى المحبوب بنعت المجاهدة. والتحبب إلى الله بما يرضى. والخلوص في نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر على مقاسات الأهوال ومنازلات الأحوال. والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل المجهود في محبوبه والتعرض لكل سبب يوصل إليه وصحبة من يدل عليه والقناعة بالخمول وعدم سكون القلب إلى شيء دون الوصول وهي أول منزلة القاصدين وبدء طريق السالكين. والمريد: من الإرادة له دون مولاه وهي ثلاث مراتب: إرادة التبرك والحرمة وهي لمن ضعفت همته وكثرت علاقته وإرادة الوصول إلى الحضرة وهي لأهل التجريد وقوة العزم وإرادة الخلافة وكمال المعرفة وهي لمن ظهرت نجابته وكملت أهليته وصرح له بالخلافة من شيخ كامل أو هاتف صادق.
المجاهدة: وهي فطم النفس عن المألوفات وحملها مخالفة هواها في عموم الأوقات وخرق عوائدها في جميع الخالات. قال بعضهم مرجعها إلى ثلاث: لا تأكل إلا عند الفاقة ولا تنم إلا عند الغفلة ولا تتكلم إلا عند الضرورة. ونهايتها المشاهدة فلا مجاهدة بعدها فلا تجتمع مجاهدة ومشاهدة إذ نهاية التعب تمام السفر فإذا حصل الوصول فما بقي إلا الراحة ومشاهدة الحبيب مع حفظ الأدب وهي ثلاث: مجاهدة الظواهر بدوام الطاعات وكف المنهيات ومجاهدة البواطن ينفي الخواطر الرديئة ودوام الحضور في الحضرة القدسية ومجاهدة السرائر باستدامة الشهود وعدم الالتفات إلى غير المعبود.
الولاية: وهي حصول الأنس بعد المكابدة واعتناق الروح بعد المجاهدة وحاصلها تحقيق الفناء في الذات بعد ذهاب حس الكائنات فيبقى ما لم يكن ويبقى ما لم يزل فأولها التمكن من الفناء ونهايتها تحقيق البقاء وبقاء البقاء ويبقى الترقي والاتساع فيها أبدا سرمدا. قال إبراهيم بن أدهم لرجل: أتحب أن تكون لله دائما؟ قال الرجل: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة وفرغ نفسك لله عز وجل وأقبل بوجهك عليه يرفق عليك ويواليك. وقال غيره: الولي من كان همه الله وشغله الله وفناؤه دائما في الله. وتطلق على ثلاث مراتب ولاية عامة وهي لأهل الإيمان والتقوى كما في الآية وولاية خاصة: وهي لأهل الاستشراق على العلم بالله وولاية خاصة الخاصة: وهي لأهل التمكن في معرفة الله على نعت العيان. وفي الحديث: قيل: من أولياء الله يا رسول الله؟ قال: المتحابون في الله وفي رواية: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها... الحديث. فشمل الحديث، ولاية الخاصة وخاصة الخاصة والله تعالى أعلم.
الحرية: وهي الحرية الكسبية، وهي سبب للظفر بالحرية الوهمية. وهي غيبة العبد في مظاهر الرب. فتنتفي ظلمة الحدوث في نور القدم وتختفي قوالب العبودية في تجلي مظاهر الربوبية. فيبقى الحق بلا خلق فحينئذ يكتب للعبد عقد الحرية فتكون عبادته وعبوديته شكرا لا قهرا كما قال سيد العارفين: أفلا أكون عبدا شكورا؟ وقال إمام هذه الطائفة الجنيد: عبادة العارف تاج على الرؤوس، يعني كمال الكمال.
العبودية: وهي القيام بأدب الربوبية، مع شهود ضعف البشرية. وقال بعضهم: هي القيام بحق الطاعات، بشرط التوقير والنظر إلى ما منك بعين التقصير، أو ترك الاختيار فيما يبدوا من الأقدار، أو التبري من الحلول والقوة والإقرار بما يوليك ويعطيك من المنة. وعلامتها: ترك التدبير بشهود التقدير، وأجمع العبارات فيها، قول ابن عطاء الله: حفظ الحدود، والوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود. قلت: وأحسن ما في تفسير العبودية، أن تقدر أن لك عبدا اشتريته بمالك، فكما تحب أن يكون عبدك معك، فكن أنت مع مولاك، فالعبد لا يملك مع سيده شيئا من نفسه ولا ماله ولا يمكنه مع قهرية سيده تدبير ولا اختيار ولا يتزيا إلا بزي العبيد أهل الخدمة ويكون عند أمر سيده ونهيه وإذا كان حاذقا فاهما عمل ما يرضي سيده قبل أن يأمره ويفهم عن سيده بأدنى إشارة إلى غير ذلك من الأدب المرضية في العبيد المؤدبين. وقال أبو علي الدقاق رضي الله عنه: العبودية أتم من العبادة. فأول المراتب: عبادة ثم عبودية ثم عبودة. فالعبادة للعوام والعبودية للخواص والعبودة لخواص الخواص، قلت: والعبودة هي: الحرية الوهمية والله تعالى أعلم.
القناعة: الاكتفاء بالقسمة، وعدم التشوف للزيادة أو الاستغناء بالموجود وترك التشوف إلى المفقود وهي الحياة الطيبة والرزق الحسن، في قوله تعالى: ليرزقهم الله رزقا حسنا. على قول: أي والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتل بعضهم أو مات ليرزقن الله من بقى منهم خرجا يجولان فلقيا القناعة فستقرا فيها ومرجعها إلى سد باب الطمع وفتح باب الورع وهي مطلوبة في أمور الدنيا فقط وأما أمور الآخرة أو في زيادة العلم أو الترقي في المعرفة فمذمومة ولذلك قيل: القناعة من الله حرمان.
العافية: وهي سكون القلب وخلوه من الانزعاج والاضطراب والتقلب ثم إن كان بالسكون إلى الله والرضا عنه فهي العافية الكاملة وإن كان بجريان الأسباب للموافقة فهي العافية العادية. وفي الحديث: ما أعطى أحد بعد اليقين خيرا من العافية. فعافية العامة سكونهم إلى الأسباب فإذا انخرمت اضطربت قلوبهم وتزلزلت لخراجها من نور اليقين. وعافية الخاصة: سكونهم إلى مسبب الأسباب. فعافيتهم دائمة وربما يزيد يقينهم إذا انخرمت الأسباب. كما قال بعضهم: نحن كالنجوم كلما اشتدت الظلمة قوي نورنا. وقال ذو النون رضي الله عنه: لو كانت السماء من زجاج والأرض من نحاس ومصر كلها عيالي ما اهتممت لهم برزق. وعافية خاصة الخاصة: سكونهم إلى شهود الحق غائبين عن الأسباب وعدمها في بحر التوحيد وأسرار التفريد. لا تنزل الهموم بساحتهم ولا تكدر صفاء مشربهم جعلنا الله منهم آمين.
اليقين: وهو سكون القلب إلى الله بعلم لا يتغير ولا يتحول ولا يتقلب ولا يزول عند هيجان المحركات أو ارتفاع الريب في مشاهدة الغيب وعلامته ثلاث: رفع الهمة عن الخلق عند الحاجة وترك المدح في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنعة. فيقين العامة: بتوحيد أفعاله، فسكنوا إليه في المنع والعطاء. ويقين الخاصة: بتوحيد صفاته، فرأوا الخلق موتى ليس بيدهم حركة ولا سكون. ويقين خاصة الخاصة: بتوحيد ذاته. فشاهدوه في كل شيء وعرفوه عند كل شيء ولم يشاهدوا معه شيئا. علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. علم اليقين: ما كان ناشئا عن البرهان. وعين اليقين: ما نشأ عن الكشف والبيان. وحق اليقين: ما نشأ عن الشهود والعيان. فعلم اليقين لأرباب العقول من أهل الإيمان. وعين اليقين: لأرباب الوجدان من أهل الاستشراف على العيان. وحق اليقين: لأهل الرسوخ والتمكين في مقام الإحسان. ومثال ذلك: كمن سمع بمكة مثلا ولم يرها. فعنده علم اليقين بوجودها. فإذا استشرف عليها ورآها ولم يدخلها فعنده عين اليقين فإذا دخلها وعرف طرقها وأماكنها فهذا عنده حق اليقين وكذلك الناس في معرفة الحق تعالى. فأهل الحجاب استدلوا حتى حصل لهم العلم اليقيني بوجود الحق. وأهل السير من المريدين المستشرفين على الفناء في الذات حصل لهم عين اليقين حتى أشرفت عليهم أنوار المعاني وغابت عنهم ظلال الأواني غير أنهم باقون في دهشة الفناء لم يتمكنوا من دوام شهود الحق. فإذا تمكنوا من دوام شهوده ورسخت أقدامهم في معرفته حصل لهم حق اليقين. وهذه نهاية النعمة. وغاية السعادة. جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
النعمة: هي ملازمة الأفراح ومباعدة الأتراح وإصابة الأغراض ونزاهة الأعراض. وهي على قسمين: نعمة ظاهرة كالصحة والعافية والكفاية من الحلال. ونعمة باطنة كالإيمان والهداية والمعرفة. والناس في النعمة الظاهرة على ثلاثة أقسام: قوم فرحوا بالنعمة لما لهم فيها من المتعة فحجبوا بها عن المنعم وقوم فرحوا بالنعمة لإقبال المنعم عليهم حيث ذكرهم بها. وقوم فرحوا بالنعم دون شيء سواه. (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) فشكر الأولين يزول بزوالها وشكر الثالث دائم في السراء والضراء وهذا شكر الخواص.
الفراسة: وهي خاطر يهجم على القلب أو وارد يتجلى فيه لا يحظى غالبا إذا صفا القلب. وفي الحديث: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله. وهي على حسب قوة القرب والمعرفة. فكما قوى القرب وتمكنت المعرفة صدقت الفراسة لأن الروح إذا قربت من حضرة الحق لا يتجلى فيها غالبا إلا الحق وهي ثلاث مراتب: فراسة العامة، وهي كشف ما في ضمائر الناس وما غاب من أحوالهم وهي فتنة في حق من لم يتخلق بأخلاق الرحمان. وفراسة الخاصة وهي كشف أسرار المقامات والمنازلات والإطلاع على أنوار الملكوت. وفراسة خاصة الخاصة: وهي كشف أسرار الذات وأنوار الصفات والغرق في بحر أسرار الجبروت. وقال الكتاني: هي مكاشفة الحق، ومعانية الغيب. وقال الواسطي: هي سواطع أنوار الذات وتمكين جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث إشهاده الحق إياها فيتكلم على ضمائر الحق. قلت: قوله: فيتكلم..... إلى آخره ليس بشرط في فراسة الخاصة والله تعالى أعلم.
الخلق: وهي ملكة تصدر عنه الأفعال بسهولة ثم إن كانت الأفعال حسنه كالحلم والعفو والجود ونحوها سمي خلقا حسنا. وإن كانت سيئة كالغضب والعجلة والبخل سمي خلقا سيئا. قال وهب: ما تخلق عبد بخلق أربعين صباحا إلا جعل الله ذلك طبيعة فيه. فالخلق الحسن يكتسب والسيئ يجاهد حتى يزول. والخلق الحسن يعدل الصيام والقيام وهي ثمرة التصوف. فمن لم يحسن خلقه فتصوفه أشجار بلا ثمار ومرجع حسن الخلق، ألا تغضب ولا تغضب ولا تبخل ولا تحقد وبالله التوفيق.
الجود والسخاء والإيثار: فالجود من لا يصعب على صاحبه البذل، فمن أعطى البعض وأبقى الأكثر فصاحب سخاء. ومن بذل الأكثر فصاحب جود. ومن قاسى الضراء وآثر غيره فصاحب إيثار. فجود العامة: بالأموال. وجود الخاصة بالنفوس وجود خاصة الخاصة بالأرواح ليبذلونها للموت بالمجاهدة ثم تحيا الحياة الأبدية بالمشاهدة.
الفقر: وهو نقض اليد من الدنيا وصيانة القلب من إظهار الشكوى ونعت الفقير الصادق ثلاثة أشياء: صيانة فقره وحفظ سره وإقامة دينه. قال جعفر الخلدي: خدمت ستمائة شيخ، فما وجدت من شفى قلبي من أربع مسائل، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: سل عن مسائلك؟ فقلت: وما التوحيد؟ فقال: هو ترك التفكر في ذات الله، فكل ما أتى به الوهم أو جلاه الفهم فربما عز وجل مخالف لذلك، فقلت: وما التصوف؟ فقال: ترك الدعاوي وكتمان المعاني. فقلت: وما الفقر؟ فقال: هو سر من أسرار الله يودعه فيمن يشاء من عباده فمن كتمه فهو من أهله وزاده الله منه، ومن باح به نفته الله عنه. قلت: جواب كل إنسان على قدر مقامه، كما قال عليه السلام: خاطبوا الناس بقدر ما يفهمون، فقوله عليه السلام في التوحيد أعلاه: ترك التفكر في ذات الله، أي لأن التفكر في كنه الربوبية منهي عنه إذ لا يدرك، وأما التفكر في أسرار الربوبية وأنوار صفاتها فلا عبادة أعظم منها. وقال عليه السلام في التوحيد: كل ما أتى به وهم...إلى آخره لا يدرك إلا حس الكائنات فهو قصير والفهم بالذوق لا يدرك أسرار التوحيد، لأنها خارجة عن الوهم ودرك العقل. فظهر معنى قوله عليه السلام: كل ما أتى به الوهم... إلى آخره، وقوله عليه السلام في شأن الفقر: من كتمه فهو من أهله، أي فيكون من السابقين ويزيده تعالى من أسراره وأنواره وهي حلاوة المعاملة والمعرفة. يحكى عن أبي علي الدقاق: أنه جلس يوما مع بعض أصحابه فكانت منه غفلة، حتى شكا ضيق حاله، فلما تفرق أصحابه، نام بعضهم فهتف به هاتف وقال: بالله أبلغ أبا عبد الله علي الدقاق ما أقول لك، ثم أنشد: قل للرويجل من ذوي الأقدار الفقر من شيمة الأحرار إن الذي ألبست من حلل التقى *** لو شاء ربك كنت عنها عار
الذكر: وهو إذا أطلق ينصرف لذكر اللسان، وهو ركن قوي في طريق الوصول وهو منشور الولاية. فمن ألهم الذكر فقد أعطي المنشور. ومن سلب الذكر فقد عزل. فذكر العامة: باللسان. وذكر الخاصة: بالجنان. وذكر خاصة الخاصة: بالروح والسر؟، وهو الشهود والعيان. فيذكر الله عند كل شيئ وعلى كل شيئ يعرف الله فيه. وهنا يخص اللسان ويبقى كالمبهوت في محل العيان وبعد ذكر اللسان في هذا المقام يكون ذلك ضعفا وبطالة....
الوقت: قد يطلقونه على ما يكون العبد عليه في الحال من قبض وبسط أو حزن أو سرور. وقال أبو علي الدقاق: الوقت ما أنت به في الحال. فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا و‘ن كنت بالعقبى فوقتك العقبى. يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان. وقد يعنون به الزمان الذي بين الماضي والمستقبل. يقولون: إن الصوفي وقته. يريدون: أنه مشغل بما هو أولى به في الوقت. لا يدبر في مستقبل ولا ماضي بل يهمه ما هو فيه. وكل وقت له آداب يطلب فيه. فمن أخل بأدبه، مقته، ولذلك قيل: الوقت كالسيف، فمن لاينه سلم ومن خاشنه قسم. وملاينته القيام بأدبه بوقت القهرية. آدابه: الرضا والتسليم تحت مجاري الأقدار. ووقت النعمة، آدابه: الشكر، ووقت الطاعات، آدابه: شهود المنة من الله، ووقت المعصية: التوبة والإنابة.
الحال والمقام: الحال: معنى يرد على القلب من غير تعمل ولا اجتناب، ولا تسبب ولا اكتساب. من بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو اهتياج. ويظهر أثره على الجوارح قبل التمكين من شطح ورقص وسير وهيام. وهو أثر المحبة، لأنها تحرك الساكن أولا ثم تسكن وتطمئن. ولذا قيل فيها: أولها جنون ووسطها فنون وآخرها سكون. وقد يكتسب الحال بنوع تعمل كحضور حلق الذكر واستعمال السماع وقد يطلب اكتسابه بخرق عوائد النفس حين يعتريها برودة وفتور، وفرق وكسل. فينبغي أن يتحرك في تسخينها بما يثقل عليها من خرق العوائد وقد يطلق الحال على المقام فيقال: فلان ضار عنده الشهود مثلا حالا، ومنه قول المجذوب:
حققت ما وجدت غير
وأمسيت في الحال هان
وأما المقام: فهو ما يتحقق العبد بمنازلته واجتهاده من الأدب وما يتمكن فيه من مقامات اليقين، بتكسب وتطلب. فمقام كل أحد موضع إقامته، فالمقامات تكون أولا أحوالا حيث لم يتمكن المريد منها لأنها تتحول ثم تصير مقامات بعد التمكين. كالتوبة مثلا تحصل ثم تنقص حتى تصير مقاما وهي التوبة النصوح وهكذا بقية المقامات. وشرطه: ألا يترقى مقاما حتى يستوفي أحكامه فمن لا توبة له، لا تصح له إنابة ومن لا إنابة له لا تصح له استقامته. ومن لا ورع له لا يصح له زهد. وهكذا. وقد يتحقق المقام الأول بالثاني، إذا ترقى عنه قبل أحكامه، إن كان له شيخ كامل وقد يطوي عنه المقامات ويدسه إلى الفناء. إن رآه أهلا بتوقد قريحته ورقة فطنته. فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب. هذا معنى المقام بفتح الميم. وأما بالضم فمعناه الإقامة ولا يكمل لأحد منازلة مقام، إلا بشهود إقامة الحق تعالى فيه. وفي الحكم: من علامات النجح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية وقال أيضا: من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته.
القبض والبسط: وهما حالتان بعد الترقي من حال الخوف والرجاء. فالقبض للعارف بمنزلة الخوف المطالب. والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمريد. والفرق بين الخوف والقبض وبين الرجاء أن الخوف متعلقه مستقبل، إما فوات محبوب أو هموم محذور. بخلاف القبض، فإنه معنى يحصل في القلب ‘ما بسبب أو لا. وكذلك الرجاء، يكون لانتظار محبوب في المستقبل. والبسط شيء موهوب يحصل في الوقت. فحقيقة القبض: انكماش وضيق يحصل في القلب يوجب السكون والهدوء. والبسط: انطلاق وانشراح للقلب يوجب التحرك والانبساط. ولكل واحد آداب مذكور في المطولات.
الخواطر والواردات: الخواطر: خطابات ترد على القلب، تكون بإلقاء ملك، أو شيطان أو حديث نفس. فإذا كان من الملك، فإلهام أو من الشيطان فوسواس أومن النفس فهواجس. فما وافق الحق ودعا إلى اتباعه فمن الملك وما وافق الباطل أو دعا إلى معصية غالبا فمن الشيطان. وقد يدعوا إلى الطاعة حيث يترتب عنها معصية كالربا وحب المدح وما دعا إلى إتباع الشهرة والدعة أي الراحة فمن النفس. قال أبو علي الدقاق: من أكل الحرام لم يفرق بين الإلهام والوسواس وكذلك من كان قوته معلوما. وفرق الجنيد بين هواجس النفس ووسواس الشيطان بأن ما دعت إليه النفس لا تنتقل عنه بل تعاوده مرة بعد مرة، إلا بعد مجاهدة كبيرة ووسواس الشيطان ينتقل عنها، فإذا خالفته في معصية انتقل لأخرى وربما يذهب بالتعود ونحوه ولذلك كانت النفس أخبث من سبعين شيطانا. وأما الواردات: فهي ما يرد على القلوب من التجليات القوية والخواطر المحمودة بما لا يكون للعبد فيه تكسب والفرق بين الخواطر والواردات أن الواردات أعم من الخواطر لأن الخواطر تختص بنوع خطاب أو ما يتضمن معناه. والواردات: تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط ووارد شوق ووارد خوف إلى غير ذلك من المعاني وقد يختطفه عن شاهد حسه وهو قريب من الحال وقد يأتي الوارد بكشف غيب فيجب تصديقه إن صفا القلب من كدورات الخواطر والله تعالى أعلم.
النفس والروح والسر: النفس عند القوم: عبارة عما يذم من أفعال العبد وأخلاقه، فالأول ما كان من كسب العبد كمعاصيه ومخالفته والثاني ما كان من جبلته وطبيعته، كالكبر والحسد والغضب وسوء الخلق وقلة الاحتمال وغير ذلك من الأخلاق الذميمة، ينسب للنفس أدبا مع الحق. والروح: عبارة عن محل التجليات الإلهية وكشف الأنوار الملكوتية. والسر: عبارة عن محل التجليات الإلهية وكشف الأنوار الملكوتية للخواص والسر لخواص الخواص. والنفس لأهل عالم الملك، والروح لأهل عالم الملكوت والسر لأهل عالم الجبروت. وسيأتي حقائقها. وهل النفس والروح والسر متعددات في نفسها أو متحدة؟ وإنما تختلف التسمية باختلاف التصفية. قال بعضهم: النفس لطيفة مودعة في هذا القالب، هي محل الأخلاق المذمومة، كما أن الروح لطيفة مودعة في هذا القالب، هي محل الأخلاق المحمودة، ومحلها واحد، وهو الإنسان، فالنفس والروح من الأجساد اللطيفة، كالملائكة والشياطين. وهما ساكنان في الإنسان فكما أن البصر محل الرؤية والأذن محل السمع والأنف محل الشم من ذات واحدة فكذلك محل الأوصاف الذميمة النفس ومحل الأوصاف الحميدة الروح وأما السر فهو لطيف مودع في القلب كالروح إلا أنه أشرف من الروح لكمال صفائه. وقال الساحلي: النفس والقلب والروح والسر والباطن أسماء لمسمى واحد، وهو اللطيفة الربانية التي كان الإنسان بها إنسانا وتختلف أسماؤها باختلاف أوصافها، فإن مالت لجهة النقص سميت نفسا وإن تخلصت من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان سميت قلبا وإن تخلصت منه إلى مقام الإحسان ولكن بقي فيها أثر النقص كأثر الجراحات بعد البرء سميت روحا، وإن ذهبت تلك الأثر وصفيت سميت بالسر وإن أشكل الأمر سميت بالباطن والاختلاف في الروح شهير. قال بعضهم: هي الحياة. وقال بعضهم: أعيان مودعة في هذه القوالب. أجرى الله العادة بخلق الحياة في القالب ما دامت فيه. فالإنسان حي بالحياة، ولكن الأرواح مودعة في القوالب، ولها ترق في حال النوم ومفارقة ورجوع هي التي وقع بها النفخ. وأما النفس هي مخلوقة في الجنين قبل نفخ الروح. بها يقع التحرك وهي ملازمة للبدن لا تفارقه إلا بالموت. فتخرج الروح أولا ثم تنقطع النفس فتنقطع الحياة للإنسان. فالإنسان روح ونفس وجسد. والحشر للجملة وكذلك العقاب والثواب. والأرواح مخلوقة قبل الأبدان سارية فيها سريان النار في الفحم والماء في العود الأرطب. قلت: هذه الأعيان المودعة في القوالب هي اللطيفة الربانية اللاهوتية وهي التي تتطور وتختلف أسماؤها باختلاف تطورها كما قال الربانية اللاهوتية. وهي التي تتطور وتختلف أسماؤها باختلاف تطورها كما قال الساحلي والله أعلم. وكون الأرواح حادثة يجري على مذهب أهل الفرق وأما أهل الجمع فلا حادث عندهم لفناء الكائنات عن نظرهم. قال الجنيد: إذا اقترن الحادث بالقديم، تلاشى الحادث وبقي القديم وسألت بعض إخواننا العارفين: هل الأرواح حادثة أو قديمة؟ فقال الرجال: الأشباح عندهم قديمة يشير إلى مقام الفناء كما تقدم لكنه سر مكتوم.
النصر والتأييد والعصمة: النصر تقوية الجوارح على فعل الخير والتأييد تقوية البصيرة من داخل في الباعث الباطني تأييد. والبطش ومساعدة الأسباب من خارج نصر. وهو جامع الهداية التي مرجعها للبصيرة العلمية الكاشفة. لما عليه الشيء بحقيقته والرشد الذي مرجعه إلى الإرادة الباعثة إلى جهة السعادة والتسديد الذي مرجعه إلى القوة على توجيه الحركات إلى صوب المطلوب وتيسيرها عليه ويقرب من التأكيد الجامع لما ذكر. العصمة:وهي عبارة عن جود إلهي. يسنح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر حتى يصير كصانع في باطنه غير محسوس. قاله الغزالي. فهذه ست حقائق: الهداية والرشد والعصمة والتسديد والنصر والتأييد وقد علمت كلها من كلام الغزالي رضي الله عنه. والتحقيق أن الهداية هي تصويب العبد إلى طريق توصله إلى الحق وقد تطلق على بيانها فقط. والرشد: هو توجيه القلب إلى طريق السعادة والتسديد: هو القدرة على سلوك طريق الخير وتجنب الشر. والعصمة: هو جود إلهي إلى آخر ما تقدم.
الحكمة: وهي اتفاق الشيء وإبداعه ففي العلم تحقيقه والعمل به. وفي الأقوال: إيجازه وتكثير معانيه. وفي العمل إتقانه وإكماله. ويقال: نزلت الحكمة على ثلاث فرق: على ألسنة العرب، وأيدي الصين، وعقول اليونان والله تعالى أعلم.
العقل: وهو نور يميز به بين النافع والضار. ويحجز صاحبه عن ارتكاب الأوزار. أو نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية أو قوة مهيأة لقبول العلم. سمي عقلا. لأنه يعقل صاحبه عما لا ينبغي وهو على قسمين: عقل أكبر وعقل أصغر. أما العقل الأكبر فهو أول نور أظهره الله للوجود. ويقال له: الروح الأعظم ويسمى أيضا القبضة المحمدية ومن نوره يمتد العقل الأصغر كامتداد القمر من نور الشمس. فلا يزال نوره ينموا بالطاعة والرياضة والتطهير من الهوى حتى يدخل العبد مقام الإحسان وتشرق عليه شمس العرفان فينطوي نوره في نور العقل الأكبر كانطواء نور القمر عند طلوع الشمس. فيرى من الأسرار والغيوب ما لم يكن يره قبل. لأن العقل الأصغر نوره ضعيف. لا يدرك إلا افتقار الصنعة إلى صانعها، ولا يدري ما وراء ذلك. بخلاف العقل الأكبر فإنه يدرك الصانع القديم قبل التجلي وبعده لصفاء نوره وشدة شعاعه. وفي بعض الأخبار: أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال: فوعزتي وجلالي لا أجعلك إلا فيمن أحببت من عبادي. أو كما قال عليه السلام، والحديث متكلم فيه. فالعقل الأكبر لا يناله إلا المحبون الذين اختارهم الله لمعرفته الخاصة. وأما العقل الأصغر فيعطيه للخاص والعام. وهو على قسمين: عقل موهوب وعقل مكسوب. فالموهوب هو الذي جعله الله فيه غريزة والمكسوب هو الذي يكتسب بالتجارب والرياضات وارتكاب المحن. قال بعضهم: وعلامة العقل ثلاث: تقوى الله عز وجل وصدق الحديث وترك ما لا يعني وقال عليه السلام: ألا وإن من علامة العقل التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتزود لسكنى القبور والتأهب ليوم النشور. وقال بعض الحكماء: خير ما أعطى الإنسان، عقل يزجره فإن لم يكن فحياء يمنعه. فإن لم يكن فمال يستره. فإن لم يكن فصاعقة تحرقه تستريح منه البلاد والعباد. وهل الأرواح قبل الأشباح كان لها عقل أم لا؟ والتحقيق أنها كانت لها عقول مقتبسة من العقل الأكبر فلذلك أقرت بالربوبية بل كانت علامة دراكة للأشياء كما قال ابن البناء: والمعرفة والإدراك إنما يكونان بالعقل. فلما برزت لعالم الأشباح أزال الله منها ذلك العقل الذي هو من العقل الأكبر وأنبت فيها العقل الأصغر عند اجتناب الولد في البطن. فما زال ينموا إلى الحلم وقيل إلى الأربعين سنة فإذا اتصل العبد بالطبيب عالجه حتى يوصله إلى العقل الأكبر فيكون صاحبه من الأولياء الكبار وبالله التوفيق.
التوحيد: وهو على قسمين: توحيد البرهان وهو إفراد الحق بالأفعال والصفات والذات من طريق البرهان، وتوحيد العيان وهو إفراد الحق بالوجود في الأزل والأبد. و قال الجنيد رضي الله عنه: هو معنى تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل، وأصوله خمسة أشياء: رفع الحدث وإفراد القدم وهجران الإخوان ومفارقة الأوطان ونسيان ما علم وما جهل. قلت: والمعنى الذي تضمحل فيه الرسوم هو ظهور أسرار الذات فإذا وقع الكشف عنها بغيبة حس الكائنات التي هي أواني لتلك المعاني انفرد الحق بالوجود ويكون فيها لم يزل كما كان في الأزل كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان فيرتفع الحدث وينفرد القدم ويهجر صاحب هذا الذوق جميع الإخوان إلا من يستعين بهم على ربه ويفارق الأوطان في طلب الحق لأن الهجرة سنة وينسى ما علم وما جهل أي يغيب عنه في جنب الكنز الذي ظفر به. وسئل أيضا رضي الله عنه عن التوحيد فقال: لون الماء لون إنائه, ومعنى كلامه رضي الله عنه أن الذات العلية كانت لطيفة خفية نورانية فلما تجلت بالرسوم والأشكال تلونت بتلونها فافهم وسلّم أن لم تذق ومقامات التوحيد غير متناهية، لأنها تتزايد بتزايد الكشف والترقي ففوق التوحيد التفريد، فانه أرق من التوحيد وأعلى، لأن التوحيد يصدق على توحيد أهل العلم والتفريد خاص بأهل الذوق وفوق التفريد:الأحدية والايحاد والفردانية والوحدانية والانفراد: وهكذا رتبتهم في القوة، فالأحدية مبالغة في الوحدة، والايحاد مصدر أوحد الشيء إذا صار واحدا والفردانية والوحدانية والانفراد معناها: إفراد الحق بالوجود ولا يكون إلا بعد انطباق بحر الأحدية على الكل بحيث لم يبق وجود لغيره قط وهو يذوق ذلك ذوقا ويغرق فيه غرقا ويقال لأهل هذا المقام الأفراد والآحاد وهم أكمل من القطب في العلم بالله كما قال الحاتمي وخارجون عن دائرة تصرفه والله تعالى أعلم. حقيقة الذات العلية: هي ذات كلية أزلية لطيفة متجلية بالرسوم والأشكال متصفة بصفات الكمال، واحدة في الأزل وفيما لا يزال، هذا رسمها بالخزاص وأما كنه الحقيقة فلا يحيط بها إلا هو تعالى.
العما: هو عبارة عن صفة الذات العلية في الأزل قبل التجلي وحقيقة فضاء لطيف خفي صافى لا يدرك. لا حد لفوقيته ولا تحتية ولا لجوانبه الأربع، ولا نهاية لأوليته ولا لآخريته، خال عن الرسوم والأشكال متصف بأوصاف الكمال من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ويجمعه قول ابن الفارض في خمريته:
يقولون لي صفها فأنت بوصفه
خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى
ونور ولا نار وروح ولا جسم
تقدم كل الكائنات حديثها
قديما ولا شكل هناك ولا رسم
ثم تجلت بالرسوم والأشكال بحيث صار اللطيف كثيفا والخفي ظاهرا والغيب شهادة فما كان في الأزل هو عين ما تجلى به في الأبد كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، وفى حديث الترمذي عن أبي رزين العقيلي قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عما، ما فوقه هواء ولا تحته هواء، أي كان في خفاء ولطافة ليس فوقه ليس فوقه هواء ولا تحته هواء بل عظمة ذاته أحاطت بكل فوق وبكل تحت وبكل هواء وقل لسيدنا علي كرم الله وجهه يا ابن عم رسول الله أين كان ربنا أو هل له مكان؟ فتغير وجهه ثم سكت سعة ثم قال: قولكم أين الله سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان ثم خلق الزمان والمكان وهو الآن كما كان دون زمان ولا مكان. أي كان الله ولا شيء معه وهو الآن لا شيء معه فافهم.
الفناء والبقاء: إذا أطلق الفناء إنما ينصرف للفناء في الذات وحقيقته محو الرسوم والأشكال بشهود الكبير المتعال واستهلاك الحس في ظهور المعنى. و قال أبو المواهب: محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال، وقال أبو سعيد بن الأعرابي هو أن تبدو العظمة والجلال على العبد فتنسيه الدنيا والآخرة والأحوال والدرجات والمقامات والأذكار يفنيه عن كل شيء وعن عقله وعن نفسه، وفنائه عن الأشياء وع فنائه عن الفناء لأنه يغرق في التعظيم أي تتجلى له عظمة الذات فتفنيه عن رؤية الأشياء ومن جملتها نفسه فيصير عين العين ويغرق في بحر الأحدية وقد يطلق الفناء على الفناء في الأفعال فلا يرى فاعلا إلا الله وعلى الفناء في الصفات فلا قدير ولا سميع ولا بصير إلا الله، يعنى انه يرى لا خلق موتى لا قدرة لهم ولا سمع ولا بصر إلا بالله وبعد هذا يقع الفناء في الذات وفى ذلك يقول الشاعر:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى
فكان فناؤه عين البقاء
و أما البقاء فهو الرجوع إلى شهود الأثر بعد الغيبة عنه أو شهود الحس بعد الغيبة عنه بشهود المعنى لكنه يراه قائما بالله ونورا من أنوار تجلياته إذ لولا الحس ما ظهرت المعنى ولولا الواسطة ما عرف الموسوط، فالحق تعالى تجلى بين الضدين بين الحس والمعنى وبين القدرة والحكمة، وبين الفرق والجمع، فالغيبة عن أحد الضدين فناء ورؤيتهما معا بقاء فالغيبة عن الحس وعن الحكمة وعن الفرق فناء وملاحظتهما معا بقاء فالبقاء اتساع في الفناء بحيث لا يحجبه جمعه عن فرقه ولا فناؤه عن بقائه ولا شهود القدرة عن الحكمة بلل يعطى كل ذي حق حقه ويوفى كل ذي قسط قسطه وقد يطلق الفناء على التخلي والتحلي فيقال فني عن أوصافه المذمومة وبقى بالأوصاف المحمودة والله تعالى أعلم.
القدرة والحكمة: القدرة عبارة عن إظهار الأشياء على وفق الإرادة، والحكمة عبارة عن تسترها بوجود الأسباب والعلل، فالقدرة تبرز والحكمة تستر والقدرة لا تنفك عن الحكمة إلا نادرا في معجزة أو كرامة أو شعوذة وقد تطلق القدرة على الذات بعد تجليها من إطلاق الصفة على الموصوف والحكمة ما يسترها من الحس وأوصاف البشرية وأحكام العبودية فظهوره تعالى بمقتضى اسمه الباطن يسمى حكمة، فتجليه تعالى من عالم الغيب إلى عالم الشهادة قدرة، وخفاؤه في ظهوره حكمة واليه يشير قول الحكم سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية.
الفرق والجمع: الفرق عبارة عن شهود حس الكائنات والقيام بأحكامه وآدابه من العبادة والعبودية والجمع عبارة عن شهود المعنى القائم بالأشياء متصلا بالبحر المحيط الجبروتي أو تقول الفرق شهود القوالب والجمع شهود المظاهر فالقوالب محل الشرائع والمظاهر عين الحقائق. و قال أبو على الدقاق: الفرق ما نسب اليك والجمع ما سلب منك. فالفرق بلا جمع فسوق وجمود وجهل بالله تعالى والجمع بلا فرق زندقة وكفر إن لم يكن سكر لأنه يؤدى إلى إبطال الشرائع التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام والى إبطال الحكمة. والقدرة لا تنفك عن الحكمة فالواجب أن يكون العبد مجموعا في فرقه مفروقا في جمعه، الجمع في الباطن موجود والفرق على الظاهر مشهود.
الحس والمعنى: الحس عبارة عن تكثيف الأشياء ظاهرا، والمعنى عبارة عن تلطيفها باطنا فحس الكائنات أوان حاملة للمعاني. قال الششتري رضي الله عنه: لا تنظر إلى الأواني وخض بحر المعاني لعلك تراني فمثال الكون كالثلجة ظاهرها ثلج وباطنها ماء كذلك الكون ظاهره حس وباطنه معنى والمعنى هي أسرار الذات اللطيفة القائمة بالأشياء فقد سرت المعاني في الأواني سريان الماء في الثلجة وفى ذلك يقول قطب الأقطاب الشيخ الجيلاني رضي الله عنه:
وما الكون في التمثال إلا كثلجة
وأنت لها الماء الذي هو نابع
فما الثلج إلا في تحقيقنا غير مائه
وغير ان في حكم دعته الشرائع فلا قيام بالحس إلا بالمعنى ولا ظهور للمعنى إلا بالحس فالمعنى رقيقة لطيفة لا تدرك إلا بتحسسها في قوالب الكائنات فظهور المعنى بلا حس محال وشهود الحس بلا معنى جهل وظلمة، ولذلك قال في الحكم: الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه.. الخ فلا يرى الحق تعالى إلا بواسطة التجليات في هذه الدار وفى تلك الدار وفى ذلك يقول بعضهم:
و ليست تنال الذات من غير مظهر
ولو هتك الإنسان من شدة الحرص
الملك والملكوت والجبروت: الملك ما ظهر من حس الكائنات، والملكوت ما بطن فيها من أسرار المعاني، والجبروت البحر المحيط الذي تدفق منه الحس والمعنى، والحاصل أن القبضة التي ظهرت أولا من فضاء العماء حسها الظاهر ملك ومعناها الباطن ملكوت والبحر المحيط الذي تدفقت منه جبروت، فأسرار المعاني رياض العارفين لأنها محل نزهة أرواحهم ولا شك أن المعاني اللطيفة لا تظهر بهجتها إلا في الحس الذي هو الملك والحس من حيث هو مضاف إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ما ظهر إلا له وما انشقت أسرار الذات إلا من نوره فلذلك قال القطب بن مشيش رضي الله عنه: فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة أي محسنة معجبة، فقد ذكر الملك بالالتزام لأن جمال زهر المعاني لا يظهر إلا في حس الكائنات وهو الملك، وقوله وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة الأصل أن يقول وبحر الجبروت بفيض نوره متدفق إشارة إلى ظهور القبضة المحمدية من بحر نوره اللطيف وإنما عبر بالحياض ليناسب الرياض وإنما جمع نور القبضة لتفرقه إلى أنوار كثيرة كما جمع العالمين مع أن العالم واحد لتعدد أنواعه والله تعالى أعلم. فحقيقة الملك ما يدررك بالحس والوهم وحقيقة الملكوت ما يدرك بالعلم والذوق وحقيقة الجبروت ما يدرك بالكشف والوجدان فالوجود واحد وإنما تختلف النسبة باعتبار الرؤية والترقية فمن وقف مع حس الكائنات وحجب بها عن المعنى سمّى في حقه ملكا ومن نفذ إلى شهود المعاني سمّى في حقه ملكوتا، ومن نظر إلى أصل القبضة الذي برزت منه سناه جبروتا فان ضم الفروع إلى الأصول وتلطفت الأواني حتى صارت كلها معاني وانطبق بحر الأحدية على الكل صار الجميع جبروتا فكل مقام يحجب عن ما قبله فالملكوت يحجب عن شهود الملك والجبروت يحجب عن الملكوت إلا بالتنزل في حال السلوك والله تعالى أعلم.
الناسوت واللاهوت والرحموت: الناسوت عبارة عن حس الأواني، و اللاهوت عبارة عن أسرار المعاني ومرجع الأول للملك والثاني للملكوت ـ والرحموت عبارة عن سريان اللطف والرحمة في جميع الأشياء جلالها وجمالها، من ظن انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره.
التواجد والوجد والوجدان والوجود: التواجد تكلف الوجد واستعماله كاستعمال الرقص والشطح والقيام وغير ذلك وهو غير مسلم إلا للفقراء المتجردين، فلا بأس بتكلف الوجد واستعماله كما يطلب الحال دواء للنفوس وهو مقام الضعفاء وقد تستعمله الأقوياء مساعفة أو حلاوة. قيل لأبي محمد الجريري: ما حالك في السماع؟ فقال: إذا حضر هناك محتشم أمسكت وجدي وإذا خلوت أرسلت وجدي فتواجدت. و أما الجنيد فكان أولا يتواجد ثم سكن فقيل له يا سيدي أما لك في السماع شيء؟ فقال: (و ترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب). قلت: وقد حضرت سماعا مع شيخنا البوزيدي رضي الله عنه فكان يتمايل يمينا وشمالا، وحدثني من حضر سماعا مع شيخه مولاي العربي الدرقاوي فقال: مازال قائما يرقص حتى كمل السماع ولا ينكر السماع إلا جامد جاهل خال من أسرار الحقيقة وأما الوجد فهو الذي يرد على القلب ويصادمه بلا تأمل ولا تكلف إما شوق مقلق أو خوف مزعج أو هو بعد التواجد ويقال التواجد ثمرات المنازلة في أسرار الحقائق كما أن حلاوة الطاعات ثمرات المنازلة في الطاعات الظاهرة فكلما اشتد التحقق بأسرار الحقائق والتوحيد قوى الوجد كما انه كلما اشتد الدوام على الطاعة قويت حلاوتها، وأما الوجدان فهو دوام حلاوة الشهود واتصالها مع غلبة السكر والدهش فان استم مع ذلك حتى زالت الدهشة والحيرة وصفت الفكرة والنظرة فهو الوجود واليه يشير قول الجنيد رضي الله عنه:
وجودي أن أغيب عن الوجود
بما يبدو علىّ من الشهود
و قال أبو على الدقاق رضي الله عنه: التواجد يوجب استيعاب العبد والوجد وجب استغراق العبد والوجود يوجب استهلاك العبد فهو كمن شهد البحر ثم ركب ثم غرق. وقال القشيري: وترتيب هذا الأمر قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود: فالقصود للمتواجدين القاصدين، والورود للواجدين الشاربين، الخمرة والشهود لأهل الوجدان السكارى، والوجود والخمود لأهل الصحو والله تعالى أعلم.
الذوق والشرب والسكر والصحو: الذوق يكون بعد العلم بالحقيقة، وهو عبارة عن بروق أنوار الذات القديمة على العقل فيغيب عن رؤية الحدوث في أنوار القدم لكنه لا يدوم ذلك بل يلمع تارة ويخفى تارة فصاحبه يدخل ويخرج فإذا لمع غاب عن حسه وإذا خفي رجع إلى حسه ورؤية نفسه، فهذا يسمى عندهم ذوقا فان دام له ذلك النور ساعة أو ساعتين فهو الشرب وان اتصل ودام فهو السكر ومرجعه إلى فناء لرسوم في شهود الحي القيوم والغبية عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى أيضا الفناء فان رجع إلى شهود الأثر وقيامها بالله وأنها نور من أنوار الله فهو الصحو، ويسمى أيضا بالريّ وبالبقاء لأبقاء الأشياء بالله بعد فنائها ويسمى أيضا فناء الفناء لأنه علم أنه لم يكون ثم شيء يفنيه غير الوهم والجهل وهما لا حقيقة لهما. قال القشيري: واعلم أن الصحو على قدر السكر فكل من كان سكره بحق كان صحوه بحق ومن كان سكره بحظ مشوبا كان صحوه بحظ مصحوبا، ومن كان محقا في حاله كان محفوظا في سكره ثم قال فمن قوى حبه تسرمد شربه ولله در القائل:
شربت الحبّ كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويتُ
المحو والإثبات: المحو الغيبة عن الكائنات فناء، والإثبات إثباتها بقاء ويطلق على محو الأوصاف الذميمة، واثبات الأوصاف الحميدة وهى ثلاث: محو الزلة عن الظواهر ومحو الغفلة عن الضمائر ومحو العلة عن السرائر، ففي محو الزلة إثبات التوبة وفى محو الغفلة إثبات اليقظة وفى محو العلة إثبات الصفاء.
الستر والتجلي: الستر عندهم عبارة عن غيبة العبد عن ربه ترويحا وتنزلا وشغلا بشأن من الشؤون، والتجلي عبارة عن كشف العبد بعظمة ربه وهذا قبل الرسوخ، وأما بعد الرسوخ فلا غيبة له فالعوام في غطاء الستر على الدوام والخواص ما بين كشف وغطاء وخواص الخواص في دوام التجلي فالستر للعوام عقوبة وللخواص رحمة إذ لولا أنهم يستر عنهم في بعض الأحيان لتلاشوا عند سلطان الحقيقة ولكنه كما يظهر لهم يستر عنهم فالخواص بين عيش وطيش إذا تجلى لهم طاشوا وإذا ستر عنهم ردوا إليهم فعاشوا.
المحاضرة والمكاشفة والمسامرة: المحاضرة حضور القلب مع الرب ويكون من وراء الحجاب، إما بتواتر البرهان أو بفكرة الاعتبار أو باستيلاء سلطان الذكر على القلب ثم بعده المكاشفة وهى حضور القلب مع الرب بنعت البيان غير مفتقر في هذه الحالة إلى تأمل الدليل وتطلب السبيل ويكون أيضا مع الحجاب بنعت القرب في مقام المراقبة وهو للعباد والزهاد ونهاية الأسرار، وأما مكاشفة ضمائر الناس فليست بمقصودة عندهم قد يعطاها من لم يبلغ لهذا المقام، وبعد المحاضرة والمكاشفة المسامرة وهى: ظهور أسرار الذات فيغيب العبد عن وجوده وغر في بحر الأحدية ساعة أو ساعتين ثم يرجع إلى شاهده وحسه كمن يستمر في العوم تحت الماء ساعة أو أكثر ثم يخرج، وهى من بداية الوجدان ولمعان أنوار المشاهدة، ثم بعدها المشاهدة وهى: دوام شهود الحق بلا تعب أو وجود الحق بلا تهمة. و قال الجنيد رضي الله عنه:المشاهدة وجود الحق مع فقدانك. وقد تقدم تفسيرها وإنما أعيدت هنا لترتبها على ما قبلها. قال القشيري: فصاحب المحاضرة مربوط بآياته وصاحب المكاشفة مبسوط بصفاته وصاحب المشاهدة ملقى بذاته. قلت: وصاحب المسامرة تارة بتارة، ثم قال القشيري: صاحب المحاضرة يهديه عقله وصاحب المكاشفة يدنيه علمه وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته، وأجمع ما قيل في المشاهدة أنه توالى أنوار التجلي على القلب من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدر اتصال البروق في الليلة الظلماء فإنها تصير في ضوء النهار وكذلك القلب إذا دام له دوام التجلي فلا ليل وأنشدوا:
ليلي بوجهك مشرق
وظلامه في الناس سار
الناس في سدف الظلام
ونحن في ضوء النهار
والسدف بالسين الظلمة كما في القاموس. وقال النووي: إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح، وقول الشاعر ليلي بوجهك... الخ: أي ليل وجودي مشرق بوجود ذاتك فقد ذهبت ظلمة وجودي في نهار وجودك.
اللوائح واللوامع والطوالع: وهى ألفاظ متقاربة، وهى لأهل البدايات حين تبرق عليهم أنوار الشهود ثم تستر فتكون أولا لوائح ثم لوامع ثم طوالع، فاللوامع أظهر من اللوائح، والطوالع أظهر من اللوامع فقد تبقى اللوامع ساعتين أو ثلاث بخلاف اللوائح فإنها أخف لزوالها بسرعة كما قال الشاعر:
افترقنا حولا فلما اجتمعنا
كان تسليمه علىّ وداعا
و قال آخر:
يا ذا الذي زار وما زارا
كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا
و أما الطوالع فإنها أبقى وقتا وأقوى سلطانا وأذهب للظلمة وأنفى للتهمة، لكنها على خطر الأفول لم يتمكن صاحبها من طلوع شمس عرفانه فأوقات حصولها وشيكة الارتحال وأحوال أفولها طويلة الأذيال لكن إذا غربت أنوارها بقيت آثارها فصاحبها إذا غربت أنوارها يعيش في بركات آثارها إلى أن تعود ثانيا هكذا حتى تطلع شمس نهاره بتمكنه فلا مغيب لها حينئذ كما قال القائل:
طلعت شمس من أحب بليل
واستنارت فما تلاها غروب
إن شمس النهار تغرب ليلا
وشموس القلوب ليست تغيب
البواده والهجوم: البواده ما يفاجأ القلب من ناحية الغيب على سبيل البغتة إما موجب فرح أو ترح، والهجوم ما يرد على القلب بقوة الوقت من غير تصنع ولا كسب، وتختلف أحوالهم بحسب ضعفهم وقوتهم، فمنهم من تغيره البواده وتنصرف فيه الهواجم، ومنهم من يكون فوق ما يفاجأه حالا وقوة لا تغيره الهواجم ولا تتصرف فيه البواده ولا تزعجه الهموم ولا تحرّكه المخاوف أولئك سادات الوقت كما قيل:
لا تهتدي نوب الزمان إليهم
ولهم على الخطب الجليل لجام
و هؤلاء هم أهل الرسوخ والتمكين جعلنا الله منهم آمين.
التلوين والتمكين: التلوين هو: الانتقال من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام وقد يسقط ويقوم، فإذا وصل إلى صريح العرفان وتمكن من الشهود فصاحب تمكين فصاحب التلوين أبدأ في الزيادة وصاحب التمكين وصل وتمكن فانتهاء سيرهم الظفر بنفوسهم، فان ظفروا بها فقد وصلوا فانخنسنت أوصاف البشرية واستولى عليها سلطان الحقيقة، فإذا دام ذلك للعبد فهو صاحب تمكين وقد يكون التلوين بعد التمكين ومعناه النزول في المقامات كنزول الشمس في بروجها فيتلون العارف مع المقادير ويدور معها حيث دارت ويتلوّن بتلوّن الوقت فيكون بين قبض وبسط وقوة وضعف ومنع وعطاء وسرور وحزن وغير ذلك من تقلبات الأحوال غير أنه مالك غير مملوك لا يتغير بتغير الأحوال ولا يتأثر بتأثر الزلازل والأهوال والله تعالى أعلم.
القرب والبعد: القرب: كناية عن قرب العبد من ربه بطاعته وتوفيقه وهو على ثلاث مراتب: قرب بالطاعة وترك المخالفة، وقرب بالرياضة والمجاهدة، وقرب بالوصول والمشاهدة، فقرب الطالبين بالطاعة وقرب المريدين بالمجاهدة وقرب الواصلين بالمشاهدة فأول البعد البعد عن التوفيق ثم البعد عن سلوك الطريق ثم البعد عن التحقيق. وفى الحديث القدسي عن الله عز وجل يقول: (ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا...) الحديث، وفى حديث آخر:(فإذا أحببته كنته) فقرب العبد من ربه انحياشه عن إليه بقلبه وقرب الحق من عبده تغييبه عن وجوده الوهمي وكشف الحجاب عن عين بصيرته حتى يرى الحق أقرب إليه من كل شيء، ثم يغيب القرب في القرب فيتحد القريب والقرب والمحب والحبيب كما قال القائل:
أنا من أهوى
ومن أهوى أنا
و كما قال الششتري:
أنا المحب والحبيب
ما ثم ثاني
الشريعة والطريقة والحقيقة: الشريعة تكليف الظواهر، والطريقة تصفية الضمائر، والحقيقة شهود الحق في تجليات المظاهر، فالشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده، فلما تجلّى الحق بين الضدين فتجلّى بمظاهر الربوبية في قوالب العبودية ظهرت الشريعة والحقيقة، فشهود العظمة من حيث هي حقيقة والقيام بآداب القوالب عبادة وعبودية شريعة، وأما الطريقة فهي إصلاح الضمائر لتتهيأ لإشراق أنوار الحقائق عليها، فالشريعة لإصلاح الظواهر والطريقة لإصلاح الضمائر والحقيقة لتزيين السرائر. و يقال: أن الشريعة عين الحقيقة من حيث لأنها وجبت بأمره، والحقيقة عين الشريعة من حيث أنها مكلف بها من قبل الشريعة، وقد تطلق عندهم الشريعة على كل ما يتوصل به إلى شيء أو يكون سببا في إدراكه، فالأسباب كلها شرائع والمقاصد كلها حقائق فالحس شريعة المعنى إذ به قبضت والمجاهدة شريعة المشاهدة والذل شريعة العز والفقر شريعة الغنى وهكذا والحرث والغرس شريعة جنى الثمار ولذلك يقولون: من غرس الشرائع أثمرت له الحقائق ومن غرس الحقائق أثمرت له الشرائع أي أخرجته إلى الرجوع إلى الشرائع وفى ذلك يقول الشاعر:
ثمار ما قد غرست تجنى
وهذه عادة الزمان
الذات والصفات: اعلم أن الحق جل جلاله ذات وصفات في الأزل وفى الأبد، أعنى قبل التجلي وبعده، إذ صفاته قديمه بقدم ذاته والصف لا تفارق الموصوف فحيث تجلت الذات فالصفات لازم لها كامن فيها وحيث ظهرت الصفات فالذات لازمة لها فالذات ظاهرة والصفات باطنة، والمراد بالصفات صفات المعاني وسائر أوصاف الكمال فكل ما وقع به التجلي والظهور فهو بين ذات وصفات الذات لا تفارق الصفات، والصفات لا تفارق الذات وهذا التلازم الذي بينهما في الوجود هو الذي قصد من قال: الذات عين الصفات أي مظهرهما واحد، كما قالوا: الحس عين المعنى اتحد مظهرهما قال بعض المشارقة في أزجاله:
يا وارد العين إن
حققت زال الشك
الذات عين الصفات
ما في المعاني شك
و لا يصدنك عن شهود الذات رداء الحس المنشور على وجه المعاني فان هذا الأمر من مدارك الأذواق والوجدان لا من طريق دليل العقل والبرهان ولله در ابن الفارض حيث يقول:
فثم رواء النقل علم يدق عن
مدارك غايات العقول السليمة
واعلم أن الذات لا تتجلى إلا في مظاهر أثر الصفات، إذ لو تجلت بلا واسطة لاضمحلت المكونات وتلاشت ولذلك يقولون تجلي الذات جلالي وتجلى الصفات جمالي، لأن الذات بلا واسطة يمحق ويحرق كما في الحدث وتجلّى الصفات بكون بالأثر فيكون معه الشهود والمعرفة فهو جمالي، ثم توسعوا فأطلقوا على كل ما هو جلالي ذات وكل ما هو جمالي صفات والعز صفات الصمت ذات والكلام صفات وهكذا وهذا الاصطلاح ذكره شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه في كتابه ولا أدرى هل سبق به أم لا.
الأنوار والأسرار: الأنوار عبارة عن ما ظهر من كثائف التجليات، والأسرار عبارة عن ما بطن فيها من المعاني اللطيفة فالأسرار أرق من الأنوار، فالأسرار للذات والأنوار للصفات لأنها أثرها، فالذات بعد التجلي بين أنوار ظاهرة وأسرار باطنة وأما في حالة الكنزية فما كان إلا الأسرار فالجبروت كله أسرار والملكوت أنوار والملك أغيار وأكدار فالوجود واحد، فمن نظر إلى باطنه لم ير إلا الأسرار ومن نظر إلى ظاهره بعين الجمع لم ير إلا الأنوار، ومن نظر بعين الفرق لم ير إلا الأغيار جمع غير بالسكون ومن شغله عن التوجه إلى الله بتشغيبه وأهواله كان حقه أكدار، وإنما سميت تجليات الحق أنوار على وجه التشبيه لأن من شأن النور أ، يكشف الظلمة ويذهبها وكذلك تجلى الحق يكشف عن ظلمة الجهل ويظهر العلم به ولذلك قالوا: العلم نور والجهل ظلمة على وجه الاستعارة وأما السر فلا فهو الأمر الخفي الذي لا يدرك فلذلك قالوا في حق الخمرة الأزلية والمعاني القديمة أسرار وسموا الأرواح بعد التصفية أسرار لأنها لما تصفت رجعت لأصلها وهى قطعة من السر الجبروتي القديم فإذا استولت على الأشباح رجع الجميع قديما والله أعلم.
و أما الضمائر والسرائر: فقيل معناهما واحد، وقيل السرائر أرق وأصفى كما أن الروح أرق من القلب، لأن الضمائر كل ما خفي في الباطن خيرا أو شرا والسرائر ما كمن فيه من المحاسن والتحقيق أنهما شيء واحد عبارة عما كمن في الباطن من العقائد والنيات بدليل الآية: (يَومَ تُبلَى السَرَائِرُ) والله تعالى أعلم.
النفس: بالتحريك، قال القشيري: يعنون به ترويح القلوب بلطائف الغيوب، فصاحب الأنفاس أرفع من صاحب الأحوال ومن صاحب الوقت، فكأن صاحب الوقت مبتدئ وصاحب الأنفاس منتهى وصاحب الأحوال بينهما، فالأوقات لأصحاب القلوب والأحوال لأصحاب الأرواح والأنفاس لأهل السرائر. قلت: النفس أدق من الوقت، فحفظ الأوقات من التضييع للعباد والزهاد وحفظ الأنفاس للعارفين الواصلين واستعمال الأحوال للمريدين، والمراد بحفظ الوقت حضور القلب فيه وبحفظ النفس حضور السر في مشاهدة الحق، يقال فلان طابت أنفاسه إذا صفا مشربه من عين التوحيد من كدورة الأغيار، فقوله في حد النفس وترويح القلوب أي خروجها من تعب العسة ودوام المراقبة إلى راحة المشاهدة بما يبدو لها من لطائف أسرار التوحيد وفضاء الشهود. ثم قال القشيري: وقالوا أفضل العبادة حفظ الأنفاس أي دوام الفكرة والنظرة كما قال الشاعر:
من أحسن المذاهب
سكر على الدوام
و أكمل الرغائب
وصل بلا انصرام
قال أبو على الدقاق: العارف لا يسلم له النفس أي تضييعه إذ لا مسامحة تجرى معه أو المحب لابد له من النفس، إذ لولا ذلك لتلاشى لعدم طاقته. فالعارف لما اتسعت معرفته سهل عليه حفظ أنفاسه لسهولة حضوره وتمكن شهوده بخلاف المحب فلضيق حاله لا يستطيع دوام حضوره في خدمته وعلى تقدير سهولتها عليه لفنائه فيها قد تختل بشريته ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : (روحوا قلوبكم بشيء من المباح) أو كما قال صلى الله عليه وسلم لحنظلة والصديق : (لو تدومون على ما انتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة بساعة).
الفكرة والنظرة: الفكرة جولان القلب في تجليات الرب وقال في الحكم: هي سير القلب في ميادين الأغيار وهذه فكرة الطالبين، وفكرة السائرين سير القلب في ميادين الأنوار، وفكرة الواصلين سير الروح في ميادين الأسرار وترجع إلى فكرتين فكرة تصديق وإيمان، وهى لأهل الاعتبار من عامة أهل اليمين وفكرة شهود وعيان وهى لأهل الاستبصار من نجباء المريدين وخاصة العارفين المتمكنين. وهي سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له وهى سبب الغنى الأكبر وبها يتحقق السير ويحصل الوصول فمن لا فكرة له لا سير له ومن لا سير له لا وصول له، وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: الفقير بلا فكرة كالخياط بلا إبرة. وأما النظرة فهي أدق من الفكرة وأرفع لأنها مبدأ الشهود فالجولان في الأكوان وهدمهما وتلطيفها فكرة، والنظرة في نفسه أو غيره من التجليات وغيبته عنها بشهود الحق نظرة فان تمكن من الشهود ودام فيه سمّى العكوف في الحضرة ولذلك يقال أول المقامات ذكر ثم فكرة ثم نظرة ثم عكوف في الحضرة والله تعالى أعلم. الشاهد: قال القشيري: قد يجرى في كلامهم فلان بشاهد العلم وفلان بشاهد الوجد وفلان بشاهد الحال ويريدون بلفظ الشاهد ما يكون حاضر قلب الإنسان وما هو غالب ذكره كأنه يراه ويبصره وان كان غائبا عنه وكل ما يستولى على قلب الإنسان ذكره فهو شاهده فان كان الغالب عليه ذكر العلم فهو بشاهد العلم وان كان غالب عليه الوجد فهو بشاهد الوجد ومعنى الشاهد الحاضر فكل ما هو حاضر قلبك فهو بشاهدك.
الخمرة والكأس والشراب: أما الخمرة فقد يطلقونها على الذات العلية قبل التجلي وعلى الأسرار القائمة بالأشياء بعد التجلي فيقولون: الخمرة الأزلية تجلت بكذا ومن نعتها كذا وقامت بها الأشياء تسترا على سر الربوبية وعليها غنى ابن الفارض في خمريته وإنما سموها خمرة لأنها إذا تجلت للقلوب غابت عن حسها كما تغيب بالخمرة الحسية وقد يطلقونها على نفس السكر والوجد والوجدان، يقولون كنا في خمرة عظيمة أي في غيبة عن الإحساس كبيرة وعلى هذا غنّى الششتري حيث قال:
خمرها دون خمري
خمرتي أزلية أي سكر خمرة الدوالي دون خمرتي أما الكأس الذي تشرب منه هذه الخمرة فهو كناية عن سطوع أنوار التجلي على القلوب عند هيجان المحبة فتدخل عليها حلاوة الوجد حتى تغيب وذلك عند سماع أو ذكر أو مذاكرة وقيل الكأس هو قلب الشيخ فقلوب الشيوخ حضور القلب واستعمال الفكرة والنظرة حتى تغيب عن وجودك في وجوده، هو السكر فالشرب والسكر متصلان في زمن واحد في هذه الخمرة بخلاف خمرة الدنيا. و قال القطب ابن مشيش: المحبة آخذة من الله قلب من أحب بما يكشف له من نور جماله وقدس كمال جلاله وشراب المحبوب مزج الأوصاف بالأوصاف والأخلاق بالأخلاق والأنوار بالأنوار والأسماء بالأسماء والنعوت بالنعوت والأفعال بالأفعال ويتسع النظر لمن شاء الله عز وجل والشراب يسقى القلوب والأوصال والعروق من هذا الشرب، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب فيسقى كل على قدره فمنهم من يسقى بغير واسطة والله تعالى يتولى ذلك منه. قلت: وهذا نادر ومنهم من يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء والأكابر من المقرّبين ثم قال: والكأس مغرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض لصافى لمن شاء من عباده المخصوصين إلى آخر كلامه وقد فسرناه في شرح الخمرية.
المريد والفقير والملامتي والمقرب: أما المريد فهو الذي تعلقت إرادته بمعرفة الحق ودخل تحت تربية المشايخ وقد تقدم، وأما الفقير فهو الذي افتقر مما سوى الله ورفض كل ما يشغله عن الله، ولذلك قالوا الفقير لا يملك ولا يملك أي لا يملك شيئا ولا يملكه شيء فهو أنهض من المريد وأخص لأن المريد قد يكون من أهل الأسباب، وقيل الفقير هو الذي لا تقله الأرض ولا تظله السماء أي لا يحصره الكون رفع همته ونفوذ بصيرته. و قال بعضهم شروط الفقير أربعة: رفع الهمة، وحسن الخدمة، وتعظيم الحرمة، ونفوذ العزيمة. وأما الملامتي فقالوا هو الذي لا يظهر خيرا ولا يضمر شرا أي هو الذي يخفى ولايته ويظهر من الأحوال ما ينفر الناس عنه. والمقرّب هو المحقق بالفناء والبقاء، قال بعضهم: الفقر والملامته والتقريب أنواع من التصوف ومراتب فيه فان الصوفي هو العامل في تصفية وقته مما سوى الحق فإذا سقط ما سوى الحق من يده فهو الفقير، وان كان لا يبالى بالناس فلا يظهر خيرا ولا يضمر شر فهو الملامتي، والمقرب من كملت أحواله فكان بربه لربه وليس له عن سوى الحق إخبار ولا مع غير الله قرار.
العبّاد والزهاد والعارفون: هذه ألفاظ معانيها متقاربة يجمعها معنى التصوف في الجملة الذي هو قصد التوجه إلى الله تعالى، إلا أن من غلب عليه العمل كان عابد ومن غلب عليه الترك كان زاهدا ومن وصل إلى شهود الحق ورسخ فيه كان عارفا. فالعباد والزهاد شغلهم بخدمته إذ لم يصلحوا الصريح معرفته، والعارفون شغلهم بمحبته الصالحون والأولياء والبدلاء والنقباء والنجباء والأوتاد والقطب: أما الصالحون فهم من صلحت أعمالهم الظاهرة واستقامت أحوالهم الباطنة. وأما الأولياء فهم أهل العلم بالله على نعت العيان من الولي وهو القرب، وقيل: من توالت طاعتهم وتحقق قربهم واتصل مددهم، وأما البدلاء فهم الذين استبدلوا المساوئ بالمحاسن واستبدلوا صفاتهم بصفات محبوبهم، وأما النقباء فهم الذين نقبوا الكون وخرجوا إلى فضاء الشهود المكون. وأما النجباء فهم الساقمون إلى الله لنجابتهم وهم أهل الجد والقريحة من المريدين. وأما الأوتاد فهم الراسخون في معرفة الله وهم أربعة كأنهم أوتد لأركان الكون الأربعة. و أما القطب فهو القائم بحق الكون والمكون وهو واحد وقد يطلق على من تحقق بمقام وعلى هذا يتعدد في الزمن الواحد أقطاب في المقامات والأحوال والعلوم، يقال فلان قطب في العلوم أو قطب في الأحوال أو قطب في المقامات إذا غلب عليه شيء منها، فإذا أريد المقام الذي لا يتصف به إلا واحد عبرّ عنه بالغوث وهو الذي يصل منه المدد الروحاني إلى دوائر الأولياء من نجيب ونقيب وأوتاد وأبدال وله الإمامة والإرث والخلافة الباطنة، وهو روح الكون الذي عليه مداره كما يشير إلى ذلك كونه بمنزلة إنسان العين من العين، ولا يعرف ذلك إلا من له قسط ونصيب من سر البقاء بالله، وأما تسميته الغوث فمن حيث إغاثته العوالم بمادته ورتبته الخاصة وله علامات يعرف بها، قال القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: للقطب خمس عشرة علامة فمن ادعاها وشيئا منها فليبرز بمدد الرحمة والعصمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات ويكرم الحكم والفصل بين الوجودين وانفصال الأول عن الأول وما انفصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه وحكم ما قبل وما بعد وما لا قبل ولا بعد وعلم البدء وهو العلم المحيط بكل علم وبكل معلوم وما يعود إليه. فالعلامة الأولى أن يكون متخلقا بأخلاق الرحمة على قدم موروثه صلى الله عليه وسلم، والعلامة الثانية أن يمد بمدد العصمة وهى الحفظ الإلهي والعصمة الربانية كما كان موروثه صلى الله عليه وسلم، غير أنها في الأنبياء واجبة وفى الأولياء جائزة، ويقال لها الحفظ فلا يتجاوز حدا ولا ينقض عهدا. والثالثة الخلافة وهو أن يكون خليفة الله في أرضه أمينا على عباده بالخلافة النبوية قد بايعته الأرواح وانقادت إليه الأشباح، والرابعة النيابة وهو أن يكون نائبا عن الحق في تصريف الأحكام حسبما اقتضته الحكمة الإلهية وفى الحقيقة ما ثم إلا القدرة الأزلية. والخامسة: أن يمد بمدد حملة العرش من القوة والقرب فهو حامل عرش الأكوان كما أن الملائكة حملة عرش الرحمن والسادسة: أن يكشف له عن حقيقة الذات فيكون عارفا بالله معرفة العيان، وأما لجاهل بالله فلا نصيب له في القطبانية، والسابعة: أن يكشف له عن إحاطة الصفات بالكائنات فا مكون إلا وهو قائم بالصفات وأسرار الذات، وعرفة القطب بإحاطة لصفات أتم ممن غيره لأنها في حقه ذوقية لا علمية. الثامنة: أن يكرم بالحكم والفصل بين الوجودين أي بين الوجود الأول قبل التجلي وهو المعبر عنه بالأزل وبالكنز القديم وبين الثاني وهو الذي وقع به التجلي والفصل بينها أن يعلم أن الأول ربوبية بلا عبودية ومعنى بلا حس وقدرة بلا حكمة بخلاف الثاني فانه متصف بالضدين ربوبية وعبودية ومعنى وحس وقدرة وحكمة ليتحقق فيه اسمه الظاهر واسمه الباطن فالضدين خاصة بالقبضة المتجلّى بها وأما العظمة المحيطة بها الباقية على كنزيتها فهي باقية على أصلها فافهم. والتاسعة والعاشرة: أن يكرم بالحكم بانفصال الأول عن الأول، والمراد بانفصال الأول انفصال نور القبضة عن النور الأزلي الكنزي وهو بحر الجبروت، والمراد بما انفصل عنه ما تفرّع من القبضة إلى منتهاه من فروع التجليات أي في الحال وأما في المآل فلا انتهاء له لأن تجليات الحق لا تنقطع أبدا فإذا انقضى الوجود الدنيوي تجلّى بوجود آخر أخروي ولا نهاية له، والحادية عشرة: أن يعلم ما ثبت في المنفصلات من المزايا والكرامات أو ضد ذلك، يعنى الجملة وأما التفصيل فمن خصائص الربوبية. والثانية عشرة: أن يعلم حكم ما قبل أي ما قبل التجلي وحكمه هو التنزيه المطلق لأنه باق على كنزيته لم تدخله الضدان. والثالثة عشرة: أن يعلم حكم ما بعد وهو التكليف فى مظاهر التعريف قياما برسم الحكمة وسترا لأسرار القدرة. والرابعة عشرة: أن يعلم ما لا قبل ولا بعد أي يعلم ما لا قبل لها ولا بعد لها وهى الخمرة الأزلية والذات الأصلية كما قال ابن الفارض:
فلا قبلها قبل ولا بعدها بعد
وقبلية الأبعاد هي لها ختم الخامسة عشرة: أن يطلع على علم البدء والمراد علمه تعالى الأولى السابق للأشياء قبل أن تكون وهو العلم المحيط بكل علم وبكل معلوم إذ لا يخرج عن علمه تعالى شيء وكل علم وكل معلوم يعود إليه وهذا هو سر القدر فقد يكاشف القطب على جزئيات منه ولا يشترط إحاطته بكلية الأشياء وجزئياتها لأن ذلك من وظائف الربوبية، وإنما يطلعه الله تعالى على جزئيات من نوع مخصوص وقد أشار أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى إلى شيء من ذلك فقال: ما من ولىّ كان أو هو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحظه من الله تعالى. وقال آخر: ما من نطفة تقع في الأرحام إلا وقد أطلعني الله عليها وما يكون منها من ذكر أو أنثى وهذا من جملة الكرامات التي أتحف الله بها أولياءه وقد يكون القطب كاملا وهو لم يطلع على شيء من هذه الأمور إلا أنه عارف بالله راسخ القدم في المعرفة وإذا أراد الله تعالى أن يظهر شيئا في مملكته أطلعه عليه وقد لا يطلعه وقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لا أعلم إلا ما علمني ربي) قال ذلك حين ضلت ناقته فلم يدر أين ذهبت فتكلم بعض المنافقين في ذلك ثم أعلمه الله تعالى بها. و بالجملة فالاطلاع على المغيبات من جملة الكرامات، وهى لا تشترط في الولي قطبا كان أو غيره، والله تعالى أعلم. و صلى اللهم على سيدنا محمد وسلم تسليما أبدا فإذا انقضى الوجود الدنيوي تجلّى بوجود آخر أخروي ولا نهاية له، والحادية عشرة: أن يعلم ما ثبت في المنفصلات من المزايا والكرامات أو ضد ذلك، يعنى الجملة وأما التفصيل فمن خصائص الربوبية. والثانية عشرة: أن يعلم حكم ما قبل أي ما قبل التجلي وحكمه هو التنزيه المطلق لأنه باق على كنزيته لم تدخله الضدان. والثالثة عشرة: أن يعلم حكم ما بعد وهو التكليف فى مظاهر التعريف قياما برسم الحكمة وسترا لأسرار القدرة. والرابعة عشرة: أن يعلم ما لا قبل ولا بعد أي يعلم ما لا قبل لها ولا بعد لها وهى الخمرة الأزلية والذات الأصلية كما قال ابن الفارض:
فلا قبلها قبل ولا بعدها بعد
وقبلية الأبعاد هي لها ختم الخامسة عشرة: أن يطلع على علم البدء والمراد علمه تعالى الأولى السابق للأشياء قبل أن تكون وهو العلم المحيط بكل علم وبكل معلوم إذ لا يخرج عن علمه تعالى شيء وكل علم وكل معلوم يعود إليه وهذا هو سر القدر فقد يكاشف القطب على جزئيات منه ولا يشترط إحاطته بكلية الأشياء وجزئياتها لأن ذلك من وظائف الربوبية، وإنما يطلعه الله تعالى على جزئيات من نوع مخصوص وقد أشار أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى إلى شيء من ذلك فقال: ما من ولىّ كان أو هو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحظه من الله تعالى. وقال آخر: ما من نطفة تقع في الأرحام إلا وقد أطلعني الله عليها وما يكون منها من ذكر أو أنثى وهذا من جملة الكرامات التي أتحف الله بها أولياءه وقد يكون القطب كاملا وهو لم يطلع على شيء من هذه الأمور إلا أنه عارف بالله راسخ القدم في المعرفة وإذا أراد الله تعالى أن يظهر شيئا في مملكته أطلعه عليه وقد لا يطلعه وقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لا أعلم إلا ما علمني ربي) قال ذلك حين ضلت ناقته فلم يدر أين ذهبت فتكلم بعض المنافقين في ذلك ثم أعلمه الله تعالى بها. و بالجملة فالاطلاع على المغيبات من جملة الكرامات، وهى لا تشترط في الولي قطبا كان أو غيره، والله تعالى أعلم. و صلى اللهم على سيدنا محمد وسلم تسليما.