قال الشيخ محمد البوزيدي في كتاب الآداب المرضية:
العلم نور أزلي صفة الذات القديمة الأزلية الأبدية التي أحاطت بكل شيء و لم يحط بها شيء، و ذاته سبحانه موصوفة بصفاته العالية، كالقدرة، و الإرادة، و العلم، و الحياة، و السمع، و البصر، و الكلام، و غير ذلك مما يناسبها، فأودع اللّه سبحانه من أسرار صفاته في عباده ما شاء.
فمنهم: من عرف قدرها و رجع إلى اللّه تعالى، و رأى أنه ليس سبب فيها، فسلب الإرادة للّه في سائر أوصافه، و لم ينسبها له قولا و لا فعلا و لا حالا، فلما حصل له هذا الزوال و انتهى في عبوديته إلى الكمال، أمده اللّه بوصفه بمحض كرمه. و عبودية هذا العبد سبب من الأسباب، و لا شك أن من أراد اللّه أن يعطيه أسراره أعطاه المفتاح الذي يفتح به على هذا السر العظيم و هو العبودية الخالصة التي ليس للنفس فيها طمع.
و لا شك أن اللّه تعالى يعطي لعباده بقدر ما أعطاهم من الإخلاص، و كل ذلك عطية من اللّه سبحانه، و لو لا فضله ما كان أحد أهلا لشيء، و وجودنا و وجود غيرنا نعمة منه سبحانه، و كل ما مددنا منه من النعم الحسية و المعنوية فهو فضل منه و كرم. و لو لا الحياء منه سبحانه لكشف الحجاب عن السر المصون، و لكن لا يناسب أهل الصحو ذلك.
و اعلم: أن العقل يدرك، و العلم يحقق، و لا تزال الروح تفتش على حقيقتها، و هي بالعلم تكاشف، و بالعقل تدرك، حتى تنتهي بالتحقيق الكبير، فيرجع العلم عين العقل، و العقل عين العلم. و العلم و العقل من أسرار اللّه المودع في الروح، بهما ينكشف الحجاب عن النفس فترجع لأصلها، و بهما تعرف قدرها، و إذا عرفت قدرها عرفت قدر خالقها. كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «من عرف نفسه عرف ربه» .
و النفس من عين الروح، و الروح من عين الكمال، و الكمال للّه سبحانه، و لا يعرف هذه الإشارة إلا أرباب الذوق الذين ذهبت نفوسهم، و اضمحلت أجسامهم، و لم يبق من وصف العبيد إلا اسمهم و رسمهم.
و هذا كله لا ينال إلا بملاقاة العارفين، و هي أعظم النعم. فمن التقى مع أحدهم فقد التقى مع الكيمياء الكبرى، إذ الكيمياء الصغرى تقلب المعادن كلها ذهبا و فضة، و هذه الكيمياء تقلب النفوس روحا و نورا، و سرا و علما بعد جهلها و ظلمتها و غفلتها. انظر ما في ملاقاتهم من الخير.