ولما كان أصل كل نور وسر وخير هو طاعة الله وأصل كل ظلمة وحجاب وبعد هو معصية الله ومن علامة حياة القلب فرحه بالطاعة وحزنه على صدور المعصية نبهك الشيخ على وجه الفرح بالطاعة التي هي سبب نور القلوب ومفاتيح الغيوب فقال :
{ لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وأفرح بها لأنها برزت من الله إليك" قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ "}
قلت قد تقدم في الحديث "من سرته حسناته وساءته سيئاته فهو مؤمن" والناس في الفرح بالطاعة على ثلاثة أقسام : قسم فرحوا بها لما يرجون عليها من النعيم ويدفعون بها من عذابه الأليم فهم يرون صدورها من أنفسهم لأنفسهم لم يتبرؤا فيها من حولهم وقوتهم وهم من أهل قوله تعالى :"إياك نعبد".
وقسم فرحوا بها من حيث أنها عنوان الرضى والقبول وسبب في القرب والوصول فهي هدايا من الملك الكريم ومطايا تحملهم إلى حضرة النعيم لا يرون لأنفسهم تركاً ولا فعلاً ولا قوة ولا حولاً يرون أنهم محمولون بالقدرة الأزلية مصرفون عن المشيئة الأصلية وهم من أهل قوله تعالى :" إياك نستعين".
فأهل القسم الأول عبادتهم لله وأهل القسم الثاني عبادتهم بالله وبقدرة الله وبينهما فرق كبير.
وقسم ثالث فرحهم بالله دون شيء سواه فانون عن أنفسهم باقون بربهم فإن ظهرت منهم طاعة فالمنة لله وأن ظهرت منهم معصية اعتذروا لله أدباً مع الله لا ينقص فرحهم أن ظهرت منهم زلة ولا يزيد أن ظهرت منهم طاعة أو يقظة لأنهم بالله ولله من أهل لا حول ولا قوة إلا بالله وهم العارفون بالله .
فإن ظهرت منك أيها المريد طاعة أو إحسان فلا تفرح بها من حيث أنها برزت منك فتكون مشركاً بربك فإن الله تعالى غني عنك وعن طاعتك وغني عن أن يحتاج إلى من يطيعه سواه قال الله تعالى :" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين " وقال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل :" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً "...الحديث.
وافرح بها من حيث أنها هدية من الله إليك تدل على أنك من مظاهر كرمه وفضله وإحسانه فالفرح إنما هو بفضل الله وبرحمته قال تعالى :"قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " ففضل الله هو هدايته وتوفيقه ورحمته هو إجتباؤه وتقريبه.
ولما كان الفرح بالطاعة قد يتوهم أنه فرع رؤيتها والنظر إليها رفع ذلك بقوله :
{ قطع السائرين له والواصلين إليه عن رؤية أعمالهم وشهود أحوالهم أما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع الله فيها وأما الواصلون فلأنه غيبهم بشهوده عنها }
يعني أن الحق تعالى غيب السائرين له والواصلين إليه عن رؤية أعمالهم الظاهرة وشهود أحوالهم الباطنية أما السائرون فلأنهم يتهمون أنفسهم على الدوام فمهما صدر منهم إحسان ولاح لهم يقظة أو وجدان رأوها في غاية الخلل والنقصان فأستحيوا من الله أن يعتمدوا عليها أو يعتدوا بها فغابوا عن أعمالهم وأحوالهم وأعتمدوا على فضل ربهم فالصدق هو لب الإخلاص وسره أي لم يتحققوا بسر الإخلاص فيها فلم يروها ولم يركنوا إليها سئل بعض العارفين :" ما علامة قبول العمل ؟ قال نسيانك إياه وانقطاع نظرك عنه بالكلية بدلالة قوله تعالى :" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال زين العابدين رضي الله عنه :" كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتك فذلك دليل على أنه لم يقبل لأن المقبول مرفوع مغيب عنك وما انقطعت عنه رؤيتك فذاك دليل على القبول " وأما الواصلون فلأنهم فانون عن أنفسهم غائبون في شهود معبودهم فحركاتهم وسكناتهم كلها بالله ومن الله وإلى الله إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه فإن ظهرت عليهم طاعة أو صدر منهم إحسان شهدوا في ذلك الواحد المنان .
واعلم أن السائرين في كلام الشيخ هم القسم الثاني الذين فرحهم بالطاعة من حيث أنها عنوان القبول ولا يلزم من الفرح بها رؤيتها إذ قد يفرح بها من حيث أنها منة من الله ويقطع رؤيته عنها من حيث اعتماده على الله والواصلون هنا هم القسم الثالث الذين هم فرحهم بالله دون شيء سواه والله تعالى أعلم.
هذا آخر الباب السادس وبه انتهى ربع الكتاب وحاصلها علاج القلوب وعلامة موتها ومرضها وصحتها واستمداد أنوارها واتصال وارداتها حتي تغيب عن شهود أعمالها وأحوالها وتفنى عن دائرة حسها باتساع فضاء شهودها وفي ذلك شرفها وعزها وفي ضد ذلك وهو رؤية المخلوق والركون إليه ذلها وهوانها وبذلك أفتتح الباب السابع فقال رضي الله عنه :
{ ما بَسقَتْ أغصانٌ ذٌلًّ إلاّ على بَذْرِ طَمَعٍ }
قلت : البسوق هو الطول قال تعالى : " والنخل باسقات " أي طويلات والبذر الذريعة والطمع تعلق القلب بما في أيدي الخلق وتشوف القلب إلى غير الرب وهو أصل شجرة الذل فما بسقت أغصان شجرة الذل إلا على زريعة الطمع ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي :" والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق " وإنما كان الطمع هو أصل الذل لأن صاحب الطمع ترك رباً عزيزاً وتعلق بعبد حقير فاحتقر مثله ترك رباً كريماً وتعلق بعبد فقير فافتقر مثله ترك رفع همته إلى الغني الكريم وأسقط همته إلى الدني اللئيم ، إن الله يرزق العبد على قدر همته ، وأيضاً كان عبد الله حراً مما سواه صار عبداً للمخلوق وعبداً لنفسه وهواه ، لأنك مهما أحببت شيئاً وطمعت فيه إلا كنت عبداً له ومهما أيست من شيء ورفعت همتك عنه إلا كنت حراً منه .
قال في التنوير: وكن أيها العبد إبراهيمياً فقد قال أبوك إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه لا أحب الآفلين وكل ما سوى الله آفل إما وجوداً وإما إمكاناً وقد قال سبحانه : "ملة أبيكم إبراهيم" فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم ومن ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق فإنه يوم زج به في المنجنيق تعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا وأما إلى الله فبلى ، قال : فاسئله ، قال :حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فانظر كيف رفع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه همته عن الخلق ووجهها إلى الملك الحق فلم يستغث بجبريل ولا احتال على السؤال من الله بل رأى الحق سبحانه أقرب إليه من جبريل ومن سؤله فلذلك سلمه من نمروذ ونكاله وأنعم عليه بنواله وأفضاله وخصه بوجود إقباله ومن ملة إبراهيم معاداة كل ما شغل عن الله وصرف الهمة بالود إلى الله لقوله تعالى " فإنهم عدو لي إلا رب العالمين " والغني إن أردت الدلالة عليه فهو في اليأس وقد قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " أيست من نفع نفسي لنفسي فكيف لا أيأس من نفع غيري لها ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجوه لنفسي " وهذا هو الكيمياء والإكسير الذي من حصل له حصل له غنى لا فاقة فيه وعز لاذل معه وإنفاق لا نفاد له وهو كيميا أهل الفهم عن الله تعالى قال الشيخ أبو الحسن رضي الله :" عنه صحبني إنسان وكان ثقيلاً على فباسطته فانبسط وقلت يا ولدي ما حاجتك ولم صحبتني قال يا سيدي قيل لي أنك تعلم الكيمياء فصحبتك لأتعلم منك فقلت له صدقت وصدق من حدثك ولكن أخالك أي أظنك لا تقبل فقال بل أقبل فقلت نظرت إلى الخلق فوجدتهم على قسمين أعداء وأحباء فنظرت إلى الأعداء فعلمت أنهم لا يستطيعون أن يشوكوني بشوكة لم يردني الله بها فقطعت نظري عنهم ثم تعلقت بالأحباء فرأيتهم لا يستطيعون أن ينفعوني بشيء لم يردني الله به فقطعت يأسي منهم وتعلقت بالله فقيل لي إنك لا تصل إلى حقيقة هذا الأمر حتى تقطع يأسك منا كما قطعته من غيرنا أن نعطيك غير ما قسمنا لك في الأزل : وقال مرة أخرى لما سئل عن الكيمياء قال :" أخرج الخلق من قلبك واقطع يأسك من ربك أن يعطيك غير ما قسم لك "وليس يدل على فهم العبد كثرة علمه ولا مداومته على ورده إنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه وتحرزه من رق الطمع وتحليه بحلية الورع وبذلك تحسن الأعمال وتزكوا الأحوال قال تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً " فحسن الأعمال إنما هو الفهم عن الله والفهم هو ما ذكرناه من الاغتناء بالله والاكتفاء به والاعتماد عليه ورفع الحوائج إليه والدوام بين يديه وكل ذلك من ثمرة الفهم عن الله . وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه وتطهر من الطمع في الخلق فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم ورفع الهمة عنهم وقدم علي رضي الله عنه البصرة فدخل جامعاً فوجد القصاص يقصون فأقامهم حتى وجد الحسن البصري فقال يا فتى أني سائلك عن أمر فإن أجبت عنه أبقينك وإلا أقمنك كما أقمت أصحابك وكان قد رأى عليه سمتاً وهدياً فقال الحسن سل عما شئت فقال ما ملاك الدين ؟ قال الورع ، قال فما فساد الدين ؟ قال : الطمع ، قال : اجلس فمثلك يتكلم على الناس.
فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق ولا تذل لهم شأن الرزق فقد سبقت قسمته وجودك وتقدم ثبوته ظهورك .
ولما كان سبب وجود الطمع هو الوهم والجزع ذكره بأثره فقال :
{ ما قادك شيء مثل الوهم }
الوهم أول الخاطر وهو أضعف من الشك والمراد هنا ما خالف اليقين فيصدق بالظن والشك يقول رضي الله عنه ما جرك شيء وقادك إلى الطمع في الخلق والتملق لهم والتذلل لما في أيديهم شيء مثل الوهم يعني أنك لما توهمت أن بيدهم نفعاً أو ضراً أو عطاء أو منعاً طمعت فيهم وتذللت لهم واعتمدت عليهم وخفت منهم ولو حصل لك اليقين أن أمرهم بيد الله وأنفسهم في قبضة الله عاجزين عن نفع أنفسهم فكيف يقدرون على نفع غيرهم لقطعت يأسك منهم ولرفعت همتك عنهم ولتعلقت همتك برب الأرباب ولنبذت الأصحاب والأحباب ، أو تقول ما قادك شيء عن حضرة الشهود والعيان إلا توهمك وجود الأكوان ولو أنهتك عنك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ولو أشرق نور الايقان لغطي وجود الأكوان قال في التنوير وإنما منع العباد من السبق إلى الله جواذب التعلق بغير الله فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله جذبها ذلك التعلق إلي ما به تعلقت فكرت راجعة إليه ومقبلة عليه فالحضرة محرمة على من هذا وصفه وممنوعة على من هذا نعته قال بعض العارفين لا تظن أن تدخل الحضرة الإلهية وشيء من ورائك يجذبك وافهم هنا قوله سبحانه :" يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي لا تعلق له بشيء دون الله وقوله تعالى:" ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" يفهم منه أيضاً أنه لا يصح مجيئك إلى الله بالوصول إليه إلا إذا كنت فرداً مما سواه وقوله تعالى " ألم يجدك يتيماً فآوى " يفهم أنه لا يأويك إليه إلا إذا صح يتمك مما سواه وقوله عليه السلام أن الله وتر يحب الوتر أي يحب القلب الذي لا يشفع بثنوية الآثار ثم وقال بعضهم :" لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده معه " فتحصل أن الوهم حجب عن الله العوام والخواص وأما خواص الخواص فلم يحجبهم عن الله شيء أما العوام فقادهم إلى التعلق بالخلق ومنعهم عن السير إلي الملك الحق فاشتغلوا بمراقبة الأحباب وعداوة من عاداهم من الأصحاب ففاتهم محبة الحبيب ومراقبة الرقيب وأما الخواص فقادهم الوهم إلى ثبوت الآثار والوقوف مع الأنوار فقنعوا بذلك ولم يتشوفوا إلى ما وراء ذلك فالقناعة من الله حرمان وليس الخبر كالعيان وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول :" والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم والوهم أمر عدمي لا حقيقة له " وأما خواص الخواص فلم يحجبهم عن الله شيء قطعوا حجاب الوهم وحصل لهم من الله العلم والفهم فلم يتعلقوا بشيء ولم يحجبهم عن الله شيء جعلنا الله منهم بمنه وكرمه .
ولما كان الوهم ينشأ عنه الطمع والطمع ينشأ عنه الذل والعبودية واليقين ينشأ عنه الورع والورع ينشأ عنه العز والحرية نبه عليه بقوله :
{أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت فيه طامع }
قلت : إنما كان الانسان حراً مما أيس منه لأنه لما أيس من ذلك الشيء رفع همته عنه وعلقها بالملك الحق فلما علق همته بالملك الحق سخر الحق له تعالي له سائر الخلق فكانت الأشياء كلها عبيداً له ومسخرة لأمره أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك فمن كان عبداً لله كان حراً مما سواه وإنما كان الانسان عبداً لما طمع فيه لأن الطمع في الشيء يقتضي المحبة له والخضوع والانقياد إليه فيكون عند أمره ونهيه لأنك حبك لشيء يعمي ويصم وهذه حقيقة العبودية وفي هذا المعنى قيل العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع، وما أقبح الانسان الذي يريد سيده منه أن يكون ملكاً وهو يريد أن يكون مملوكاً يريد سيده أن يجعله حراً وهو يريد أن يكون عبداً خلق له سيده الكون بأسره خادماً له عند نهيه وأمره فجعل هو يخدم الكون بنفسه ويتعبد لأقل شيء وأخسه يقول المصنف في التنوير في مناجاة الحق تعالى على ألسنة الهواتف :" إنا أجللنا قدرك أيها العبد أن نشغلك بأمر نفسك فلا تضعن قدرك يا من رفعناه ولا تذلن بحوالتك على غيري يا من أعززناه ويحك أنت أجل عندنا من أن تشتغل بغيرنا لحضرتي خلقتك وإليها طلبتك وبجواذب عنايتي لها جذبتك فإن أشتغلت بنفسك حجبتك وأن اتبعت هواها طردتك وإن أخرجت عنها قربتك وإن توددت لي بإعراضك عما سواي أحببتك" فتحصل أن محبة الأشياء والطمع فيها هو سبب
الذل والهوان والتعبد لسائر الأكوان وأن الأياس من الأشياء ورفع الهمة عنها هو سبب العز والحرية والتيه على الأقران.
وهذا هو الغنى الأكبر والإكسير عند الأكياس ويسمى في اصطلاح الصوفية الورع أعني الورع الخاص وهو رفع الهمة عن السوي قال في لطائف المنن واعلم رحمك الله أن ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل فإن من جملة ورعهم تورعهم أن يسكنوا لغيره أو يميلوا بالحب لغيره أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره ومن ورعهم عن الخوف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب ومن ورعهم ورعهم عن الوقوف مع العادرات والاعتماد على الطاعات والسكون إلى أنوار التجليات ومن ورعهم ورعهم عن أن تفتنهم الدنيا أو توقفهم الآخرة تورعوا عن الدنيا وفاء وعن الآخرة صفاء .
وقال أبو الحسن الورع نعم الطريق لمن عجل ميراثه وأجل ثوابه فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم لا يدبرون ولا يختارون ولا يريدون ولا يتفكرون ولا ينظرون ولا ينطقون ولا يبطشون ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله ولله من حيث يعلمون هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فهم مجموعون في عين الجمع لا يفترقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى وأما أدني الأدنى فالله يورعهم عنه ثواباً لورعهم مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى وميرائه التعزز لخلقه والاستكبار على مثله والدلالة على الله بعلمه فهذا هو الخسران المبين والعياذ بالله العظيم من ذلك والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه ومن لم يزدد بعلمه وعمله افتقاراً لربه واحتقاراً لنفسه وتواضعاً لخلقه فهو هالك فسبحان من قطع كثيراً من الصالحين بصلاحهم عن مصلحهم كما قطع كثيراً من المفسدين بفسادهم عن موجدهم فأستعذ بالله أنه هو السميع البصير اه.
فانظر فهمك الله سبيل أوليائه ومن عليك بمتابعة أحبائه هذا الورع الذي ذكره هذا الشيخ رضي الله عنه هل كان فهمك يصل إلى هذا النوع من الورع ألا ترى قوله قد أنتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهذا هو ورع الأبدال والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الواهم اه قلت هذا الورع الذي ذكره الشيخ هو ورع الخواص أو خواص الخواص وهو الذي يقابل الطمع كما تقدم في قول الحسن البصري صلاح الدين الورع وفساد الدين الطمع لا ورع العوام الذي هو ترك المتشابه والحرام فإنه لا يقابل الطمع كل المقابلة وحاصله صحة اليقين وكمال التعلق برب العالمين ووجود السكون إليه وعكوف الهم عليه وطمأنينة القلب به حتى لا يكون له ركون إلى شيء من السوى فهذا هو الورع الذي يقابل الطمع المفسد وبه يصلح كل عمل مقرب وحال مسعد قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه الورع على وجهين ورع في الظاهر وهو إلا تتحرك إلا لله وورع في الباطن وهو أن لا يدخل قلبك إلا الله .