اعلم: أن العبد لا يكاد يرضى عن الحق. سبحانه، إلا بعد أن رضى عنه الحق سبحانه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قال: " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ " .
يقول أبو عليِّ الدقاق : قال تلميذ لأستاذه: هذا يعرف العبد أن الله تعالى راضٍ عنه؟ فقال: لا، كيف يعلم ذلك. ورضاه غيب؟ فقال التلميذ: بل يعلم ذلك، فقال: كيف؟! فقال: إذا وجدت قلبي راضياً عن الله تعالى. علمت أنه راضٍ عني فقال الأستاذ: أحسنت يا غلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا .
وهذا الحديث عليه مدار مقامات الدين ، وإليه ينتهي . وقد تضمن الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته . والرضا برسوله ، والانقياد له . والرضا بدينه ، والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة : فهو الصديق حقا . وهي سهلة بالدعوى واللسان . وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان . ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها . من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا . فهو على لسانه لا على حاله .
فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه . فعل الراضي بمحبوبه كل الرضا . وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له .
والرضا بربوبيته : يتضمن الرضا بتدبيره لعبده . ويتضمن إفراده بالتوكل عليه . والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه . وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .
فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه .
وأما الرضا بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له . والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه .
وأما الرضا بدينه : فإذا قال ، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا . ولم يبق في قلبه حرج من حكمه . وسلم له تسليما.
واعلم أن الرضا ثمرة من ثمار المحبة وهو من أعلى مقامات المقربين ، ومن أعظم أسباب حصول الرضا : أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه . فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولا بد .
قيل ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟ فقال : إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه ، فيقول : إن أعطيتني قبلت . وإن منعتني رضيت . وإن تركتني عبدت . وإن دعوتني أجبت .
وقال الجنيد : الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب . فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا .
وقال ذو النون : ثلاثة من أعلام الرضا : ترك الاختيار قبل القضاء ، وفقدان المرارة بعد القضاء . وهيجان الحب في حشو البلاء .
وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي : الرضا أفضل من الزهد في الدنيا . لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته .
قال محمد بن خفيف: الرضا على قسمين: رضا به، ورضاع عنه؛ فالرضا به أن يرضاه مدبراً، والرضا عنه فيما يقضى.وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أسألك الرضا بعد القضاء فقال : لأن الرضا قبل القضا عزم على الرضا . والرضا بعد القضا هو الرضا .
وقال أبن خفيف: الرضا: سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضي الله به واختاره له.وقيل : الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان . قال الجنيد:" الرضا: ترك الاختيار ".
قال الحارث المحاسبي:" الرضا: سكون القلب تحت جريان الحكم ".
قال ذو النون:" الرضا: سرور القلب بمر القضاء ".
قال رويم:" الرضا: استقبال الأحكام بالفرح ".
قال ابن عطاء:" الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد؛ فإنه اختار له الأفضل ".
وقال أبو عثمان الحيري : منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ، وما نقلني إلى غيره فسخطته .
والرضا ثلاثة أقسام : رضا العوام بما قسمه الله وأعطاه . ورضا الخواص بما قدره وقضاه.ورضا خواص الخواص به بدلا من كل ما سواه.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: ليس الشأن في أكل خبز الشعير والخل ولا في لبس الصوف والشعر ولكن الشأن في الرضا عن الله عز وجل.
وقال عبد الله بن مسعود: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان.
وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر.
وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء.
وقال الثوري يوماً عن رابعة: اللهم ارض عني فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنت غير راض فقال: أستغفر الله فقال جعفر بن سليمان الضبعي: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى قالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة.
وكان الفضيل يقول: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قال أبو سليمان الداراني إن الله عز وجل من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت: وكيف ذاك قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه قلت: نعم قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.
وقال سهل: حظ العبيد من اليقين على قدر حظهم من الرضا وحظهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله عز وجل.
أما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها ، لأن القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه ثم لا يدرك غمه وألمه لفرطه استيلاء الحب على قلبه.