آخر الأخبار

جاري التحميل ...

العارفون بالله اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق.

حقيقة الحقائق

من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن (كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلّا وَجهَهُ) لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات ، بل هو هالك أزلا وأبدا لا يتصور إلا كذلك ، فإن كل شيء سواه إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض ؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجودا لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء الباري تعالى (لِّمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَهِ الواحِدِ القَهّارِ) بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أدبا. ولم يفهموا من معنى قوله (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل بيس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية . بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبيا كان أو ملكا. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولا ما، وذلك ينافي الجلال والكبرياء. 

إشارة

العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفانا علميا، ومنهم من صار له ذلك حالا ذوقيا. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم : "أنا الحق" وقال الآخر:" سبحاني ما أعظم شأني" وقال آخر :"ما في الجبة إلا الله" وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط ، فيظن أن الصورة التي رآها هي صورة المرآة متحدة بها ، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:

رَقَ الزُجاجُ وَراقَتِ الخَمرُ     فَتَشابَها فَتَشاكَلَ الأَمَرُ
فَكَأَنّما خَمرٌ وَلا قَدحٌ           وَكَأَنّما قَدحٌ وَلا خَمرُ

وفرق بين أن يقول: الخمر قدح ، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة "فناء" بل "فناء الفناء": لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه ، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا يعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحادا أو بلسان الحقيقة توحيدا. ووراء هذه الحقائق أيضا أسرار يطول الخوض فيها.

كتاب : مشكاة الأنوار ـ الإمام أبو حامد الغزالي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية