( اخْرُجْ مِنْ أَوْصَافِ بَشَرِيَّتِكَ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مُنَاقِضٍ لِعُبُودِيَّتِكَ لِتَكُونَ لِنِدَاءِ الْحَقِّ مُجِيبًا وَمِنْ حَضْرَتِهِ قَرِيبًا )
إخلاص كل عبد في أعماله على حسب رتبته ومقامه ، فأما من كان منهم من الأبرار فمنتهى درجة إخلاصه أن تكون أعماله سالمة من الرياء الجلي والخفي ، وقصد موافقة أهواء النفس طلباً لما وعد الله به المخلصين من جزيل الثواب ، وحسن المآب ، وهربا عما أوعد به المخلطين من أليم العذاب ، وسوء الحساب ، وهذا من التحقق بمعنى قوله تعالى : "إياك نعبد" - أي لا نعبد إلا إياك ، ولا نشرك في عبادتنا غيرك .
وحاصل أمره إخراج الخلق عن نظره في أعمال بره ، مع بقاء رؤيته لنفسه في النسبة إليها ، والاعتماد عليها . وأما من كان منهم من المقربين فقد جاوز هذا إلى عدم رؤيته لنفسه في عمله ، فإخلاصه إنما هو في شهود انفراد الحق تعالى بتحريكه وتسكينه ، من غير أن يرى لنفسه في ذلك حولا ولا قوة ، ويعبر عن هذا المقام بالصدق الذي يصح به مقام الإخلاص .
وصاحب هذا مسلوك به سبيل التوحيد واليقين ، وهو من التحقق بمعنى قوله تعالى: "وإياك نستعين" أي لا نستعين إلا بك ، لا بأنفسنا وحولنا وقوتنا ، فعمل الأول هو لله تعالى ، وعمل الثاني هو العمل بالله ، فالعمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القربة ، والعمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، والعمل لله نعت كل عابد ، والعمل بالله نعت كل قاصد ، والعمل لله قيام بأحكام الظواهر ، والعمل بالله قيام بالضمائر ، وهذه العبارات للإمام أبي قاسم القشيري رضي الله عنه - وبهذا يتبين الفرق بين المقامين ، وتباينهما في الشرف والجلالة ، فإخلاص كلّ عبد هو روح أعماله ، فبوجود ذلك تكون حياتها وصلاحيتها للتقرب بها ، ويكون فيها أهلية وجود القبول لها ، وبعد ذلك يكون موتها وسقوطها عن درجة الاعتبار ، وتكون إذ ذاك أشباحا بلا أرواح ، وصورا بلا معان .
قال بعض المشايخ : "صحح عملك بالإخلاص ، وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة".
تعقيب
وخلاصة معنى الحكمة كما يقول ابن عجيبة في إيقاظ الهمم :الأعمال كلها أشباح وأجساد، وأرواحها وجود الإخلاص فيها، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح، وإلا كانت ميتة ساقطة، كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها. وإلا كانت صورا قائمة، وأشباحا خاوية لا عبرة بها، ولذا قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) وقال تعالى :"فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ".
والإخلاص على ثلاث درجات : درجة العوام ، والخواص ، وخواص الخواص ، فإخلاص العوام : هو إخراج الخلق من معاملة الحق ، مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية ، كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور ، وإخلاص الخواص : طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية ، وإخلاص خواص الخواص : إخراج الحظوظ بالكلية ، فعبادتهم تحقيق العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، أو محبة وشوقاً إلى رؤيته ، كما قال ابن الفارض :
ليس سؤلي من الجنان نعيماً غير أني أحبها لأراكاً
وقال آخر (وينسب إلى رابعة العدوية)
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أو بأن يسكنوا الجنان فيضحوا في رياض ويشربوا السلسبيلاً
ليس لي في الجنان والنار رأى أنا لا أبتغي بحبي بديلاً